قراءة مجلة (المشاهد السياسي) لرواية (حدائق
الرئيس)
تعقيد التاريخ العراقي
الحديث بمآسيه المتلاحقة
المؤلّف: محسن الرملي
الناشر: دار
ثقافة والدار العربية للعلوم ـ أبوظبي،بيروت 2012
«حدائق الرئيس»
للمؤلّف محسن الرملي رواية حافلة بالأحداث، التواريخ، المواضيع والشخصيّات التي من
أبرزها عبد الله كافكا، طارق المُندهِش وإبراهيم قِسمة. ولِد الثلاثة في أشهُر
مُتتالية، ومنذ حَبوهم ولعبهم عُراة في التراب قرب أمّهاتهم المتجمّعات بجوار
التنانير أو أمام أبواب بيوتهن، في المساءات، لتبادل الثرثرة وأخبار الناس التي
يُسمّونها (عُلُوم)، صاروا أصدقاء لا يفترقون إلا للنوم. معاً أُصيبوا بمرض
الحصبة.. معاً شُفوا منه.. ومعاً تعلّموا المشي والسباحة وصيد العصافير، تربية
الحمام، سرقة البطيخ والرمّان وألعاب الرماية والاختباء وكرة القدم.
تسرد هذه
الرواية سيرتهم، ومن خلالها جانباً من تاريخ العراق على مدى نصف قرن، وكيف انعكست
أحداثه على حياة الناس البسطاء. الحروب، الحصار، الديكتاتورية، المقابر الجماعية
وفوضى الاحتلال التي يضيع فيها دم إبراهيم، كرمز للدم العراقي، بين فلول نظام سابق
وأتباع نظام تلاه، فتُيسّر لقارئها فهم تعقيد التاريخ العراقي الحديث بمآسيه المتلاحقة،
عبر قَص شيّق في 28 فصلاً، من بين عناوينها: أبناء شَق الأرض، سَفر بقَدم واحدة،
عَودة كافكا من الأَسر، شَوكة البحر، سِرّ الفضيحة التي لم تُفضَح، طفولة في صندوق
عسكري، الرئيس يقتل الموسيقي، جثث ودفاتر، عرس نَسمة، آكلو الورد، لقاءات الأحياء
والأموات وزواج مُكرّر. محسن الرملي، وبعد نجاح روايتيه «الفتيت المُبعثَر» و«تَمر
الأصابع» ونشرهما بالإنكليزية والإسبانية، قد وعد قُرّاءه بهذا العمل «حدائق
الرئيس» في لقاءات صحفية وبرامج تلفزيونية، منها تحقيق أعدّته عنه القناة الرسمية
الإسبانية، مكرّراً تنبيهه ورفضه اعتبار الضحايا مجرّد أرقام، كما تَذكُر الصحافة،
وإنما هم أناس لهم تاريخ وعوائل وأحلام وتفاصيل، وكل شخص هو عالَم قائم بذاته..
ومن بين مهامّ الأدب تبيان ذلك.
يعود الروائي
العراقي محسن الرملي، المقيم في مدريد منذ ما يقارب العقدين من الزمن، بإصدار جديد
عنوانه «حدائق الرئيس» عن دار «ثقافة للنشر والتوزيع»، أبو ظبي، وبالاشتراك مع
«الدار العربية للعلوم» في بيروت، بعدما كانت روايته «تمر الأصابع» وصلت إلى قائمة
البوكر العربية الطويلة في نسختها قبل الماضية وبعد ترجمتها إلى الإسبانية
والإنكليزية.
وكما يصف
الشاعر المصري أحمد يماني فإن المشهد الذي تبدأ به الرواية، مشهد قاس يتحوّل طوال
فترة العمل إلى تفنيد هذه القسوة، متجاوزاً فكرة الحرب إلى الطبيعة البشرية، التي
تتخيّل أحياناً أنها تؤدّي واجباً دينياً أو أخلاقياً أو وطنياً، وفي أحيان كثيرة
دونما حاجة حتى إلى أي تبرير من أي نوع، لكأن ثمة خطيئة أصلية في هذا الكائن
البشري تمضي به إلى تتبّع القسوة «بدم بارد» وفاق ترومان كابوتي.
«في بلد لا موز
فيه، استيقظت القرية على تسعة صناديق موز، في كل واحد منها رأس مقطوعة لأحد
أبنائها، ومع كل رأس بطاقته الشخصية التي تدلّ عليه لأن بعض الوجوه تشوّهت
تماماً». هذا هو المشهد الافتتاحي للرواية، ويتمّ التاريخ لهذا الحدث في عام 2006،
ثم ينتقل الراوي إلى حرب فلسطين في العام 1948 بحكاية تواطؤ الآباء على اختراع دور
بطولي في تلك الحرب. ثم تتوالى الحروب بعد ذلك من الحرب العراقية ـ الإيرانية إلى
الغزو الأميركي، مروراً بغزو الكويت وحروب الديكتاتور الداخلية. تقوم أحداث
الرواية بشكل رئيسي على ثلاث شخصيات، ثلاثة أصدقاء ولدوا معاً في العام نفسه 1959،
وتربّوا معاً وأصبحوا لا يفترقون. هم أبناء «شقّ الأرض» كما أطلق عليهم أهالي
القرية. لكن هذه العلاقة الحميمة التي تربط الثلاثة لا تخلو من منغّصات وحسد في
بعض الأحيان. فعبد الله كافكا وإبراهيم قسمة أكثر قرباً وتشابهاً، سواء على
المستوى النفسي أو الجسدي، بينما طارق المندهش، الضلع الثالثة في مثلّث الصداقة،
هو أبعد نفسياً وجسدياً من عبد الله وإبراهيم. هو المتعلّم الوحيد فيهم، ولا أظنّ
أن ثمّة تلميحاً أو ترميزاً الى المثقّف، فطارق في النهاية، لا يمثّل المثقّف بقدر
ما يمثّل الإنسان العملي الذي يسخّر التعليم والدين من أجل مصالحه؛ وهو بلا شك
شخصيّة أكثر تركيباً وتعقيداً من عبد الله كافكا وإبراهيم قسمة، اللذين يمثّلان
براءة ما، سواء في قبول القدر كأمر حتمي كما هي حال إبراهيم قسمة، ومن هنا لقبه،
أو في السخرية من القدر والرؤية الآحادية له، باعتباره عبثاً لا ينقضي في حالة عبد
الله كافكا، الذي تحظى شخصيّته بتعاطف الراوي، وتظلّ هي الأبرز والأكثر إثارة طوال
فترة العمل. لا تسعى الرواية إلى مقاربة موضوع الحرب في ذاته ولا البحث في
أسبابها، لكننا نجد أنفسنا كل مرّة أمام حرب جديدة، كأنها قدر يهبط فجأة من دون
داع لفهم أسبابه. لا تحاول الرواية التركيز على حرب بعينها، بل تتعامل مع مختلف
حروب العراق بالمنطق نفسه تقريباً: يصحو الناس على الحرب وتبدأ دورة جديدة من
التشرّد والقسوة والعنف. تبدو الحرب إذاً كمبرّر آخر للقسوة والفظاظة والعنف، كما
يمكننا أن نرى في مناطق أخرى في الرواية القسوة نفسها بعيداً من الحرب. كأنّ
الكاتب يسعى إلى تأكيد نوع من الخراب يشمل الكائن البشري أيّاً يكن الظرف الذي
يحيط به. هل نحن أمام رواية ديكتاتور بالمعنى الذي تم إعطاؤه لها في أميركا
اللاتينية؟ كادت رواية الديكتاتور اللاتينية تصير جنساً أدبياً مستقلاً. على سبيل
المثال «السيد الرئيس» لميغال أنخيل أستورياس، و«حفل أخاب الملك» لإنريكه
لافوركادي، و«خريف البطريرك» لماركيز، و«ذيل السحليّة» للويسا بالينثويلا، و«حفلة
التيس» لماريو فارغاس يوسا. «حدائق الرئيس» تقترب من هذه الكتابة بقدر ما.
-----------------------------------
*نشرت في مجلة
(المشاهد السياسي) المجلد 16 الأعداد 896 ـ
871 بتاريخ 23 ديسمبر 2012 ـ 12 يناير 2013 قبرص.
غلاف العدد