«تمر الأصابع»: ثورة الأنا بين إرث الماضي وثأر الحاضر
فهد توفيق الهندال
«ما كنت لأكتب قصة أهلي وأفضحهم لولا تشجيع أبي لي وهو يحلق شعر رأسي في مرقصة المدريدي قائلا: «اكتب ما تشاء فلن يحدث أسوأ مما حدث.. هذا العالم جايف». ص 7
بهذه العبارة السردية، يبدأ سارد الرواية (سليم) أولى جمل استهلالها بعد عنوانها ذي دلالة شعرية (تمر الأصابع)، ليلحقها بإهداء ذاتي والمحدد جغرافيا من قبل الكاتب إلى العراق واسبانيا، فالأول «مهد الطفولة ومهد الحضارات «والثاني» محطتي للسلام بعد طريق طويل مكتظ بالحروب» ص 5، بما يوحي التوظيف المقصود من الكاتب في عنونة الرواية التي تؤدي دورا ايحائيا /وصفيا - بحسب مفهوم جينيت – يربط المتلقي بالعمل وفق عقـد شعري تمثل بسمة العنوان الرمزية، ثم تحديد الإهداء الذي سيؤدي وظيفتين: دلالية لمن يرتبط بهذين الموقعين وفق علاقات عديدة، وتداولية لمضمون العمل إنسانيا وثقافيا مع كل من تقع بين أصابعه هذه الرواية، مما سيفتح آفاق التلاقي مع العالم الروائي للعمل، وتلاقيه مع سياق عام تدور فيها أعمال لها رمزية واحدة، مع تعدد الأساليب والرؤى.
جدلية الماضي والحاضر
فتمر الأصابع ليس العمل الوحيد الذي يحكي تلك العلاقة بين الإنسان والوطن، الماضي والمستقبل في غربة الحاضر السارد. ولعل الإهداء، كان مفتاحا لجغرافية السرد المتراوح بين العراق واسبانيا. ليتمثل الحاضر كجدلية بين الأمس والغد، وقد تمثل الأمس وزمنه الماضوي بشخصية الجد مطلق، والحاضر بالأب نوح، والمستقبل بالابن سليم. فشخصـية الجد ومن دلالة اسمها يمثل ذلك الارث المقـدس بكل أطيافه: الدينية، الاجتماعية، الأخلاقية، والسياسية. وقد تجسد ذلك كله في حضور الجد كشيخ عشيرة، وكبير العائلة التي ينعـم على الجميع ببركاته، بدءا باختياره لأسماء المواليد من أبنائه وكل المنتسبين له، مما ولّد لدى الجميع قناعة تامة بـ«ان الله هو الذي اختار أسماءكم وليس أنا» بحسب قول الجد، ص 29. إضافة إلى تأثر الجد سابقا في صباه بمقولة رجل الدين وقبلة حكمته ملا عبدالحميد لبعد أنت عالجه من عراك مع كلب اعترض طريقه – الجد - في صغره أثناء توجهه للمسجد، وقد هزم الكلب بعضة هي رد ودفاع عن نفسه، مما جعل شيخه الملا يكرم عليه بلف ساقه المجروحه بعمامتـه، ثم وهبه حفنة من التمر مع مقولته التي بقيت ترن بذهنية الجد: «إذا نبح عليك الكلب فلا تنبح عليه، ولكن إذا عضك فعضّه» ص 9. لتصبح هذه المقولة العابرة شعار ثورة الجد لاحقا ضد انتهاك حرمتهم وكرامتهم، مما جلب على المنطقة وأهلها غضب السلطة وسخطها بقتل واعتقال الكثير منهم، وتغيير اسمهم من (المطلق) إلى (القشامر)، ليقرر الجد الرحيل من منطقتهم بعد ذل السلطة والاسم الذي أصر – الجد - على أن يكون اسم منطقتهم الجديدة، رغبة ببقاء هاجس الثأر، ليتغذى أكثر على الإرث المقدس والذي اقتبس على هيئـة شخصية الجد، فيزداد نوح خضوعا لأبيه مطلق، ويقسم له بأخذ الثأر.
جيل جديد
وبرغم الحضور المقدس للجد، لكن أبناء الجيل الجديد بدأوا يتمردون قليلا على ناموسه، كسخريتهم من اسم أحدهم (صراط)، والعلاقة السرية بين (سليم) وابنة عمه (عالية)، كذلك في تغير حال الأب (نوح) بعد خروجه من العراق إلى اسبانيا، الذي اعتقده سليم ثورة على إرثه الإيماني والأخلاقي، برغم بقاء رصاصة واحدة في ميدالية مفاتيحه - الأب - وهي التي بقيت من ثلاث رصاصات انتزعها نوح من مسدس ذلك الشاب الذي اعتدى على كرامتهم وكان سببا في نكستهم وهوانهم. لتبقى أسئلة سليم حول ثورة الأب الظاهرية محاصرة له، وهو يستذكر بالسرد اللاحق أحداث قريتهم، وقسم والده لجده بأنه سيثأر من النظام بأكمله الذي أذلهم ونفاهم عن كرامتهم، وتحقيق حلم الجد بتغيير اسم القرية القشامر إلى الكرامة.
في حين نجد المسافة قصيرة بين سليم ووالده «نوح» والعلاقة الحميمية بين الاثنين خلاف علاقة نوح الخاضعة لوالده/الجد «مطلق»، بما يوحي بقوة العلاقة بين الحاضر والمستقبل، في عالم جديد يمثل أملا وسلاما بعد طريق شائك مليء بالحروب والعداوات والمأساة على الجانب الشخصي لسليم ولو أنه احتفظ في ذاكرة المكان الجديد/اسبانيا صور العراق.. الحضارات، التاريخ، الطبيعة، المكان الأول، والذكريات والطفولة، وهو ما كان سببا في تغيّر الموقف بين الاثنين عندما تفجر غضب الأب من صور تمثل له ماضيه عندما نهر سليم: «كنت أظن أنك أعقل من هذا.. وألا تقع في الحنين المَرَضي الذي يقع فيه جل المغتربين حين يصورون لأنفسهم أن كل شيء جميل في بلادهم التي غادروها.. بما في ذلك الخراب والمزابل..» ص 149. ليشهد الموقف حوارا بين الاثنين، ينطلق فيه الأب من كراهية ماض لم يصنعه أو يختاره، بل صنعه الآخرون (الطاغية / الجد) - وإن لم ينطق صراحة باسم الثاني. وانطلاقة رفض الأب لهذا الماضي، قابلهـا رفض الابن/سليم لانهيار الصورة الجميلة التي يمثلها له الوطن وكائناته الجميلة، أهمها عشق الطفولة عالية، ليرد بسرد مختصر عن ذهول محبوس من تغير حالة الأب، ليقتحم ثورة الأب الغاضبة من الماضي بثورة على سوداوية الماضي وخديعة الحاضر: «تخدع أمي وتهجر عائلتك، وتخدع روسا وتستغلها، ثم هذا الانقلاب الراديكالي على كل إرثك الشخصي والأخلاقي والديني.. كل ذلك من أجل هدف سخيف!؟» ص 150.
فيدخل الاثنان في خلاف حول رؤية كل منهما للعالم المحيط بهما، وموقفه مما يحدث في وطنهم المنسي، كما في نبرة سخط الأب: «أين هي حضارة وقوانين هذا العالم الحقير، الجايف، المنافق، النذل؟.. وهو يرانا نساق كالخراف إلى المجزرة بلا ذنب..» ص 151.
ثورة كامنة
رغم هذا الاختلاف بين جيلي اليوم والغد حول إرث الماضي، وثأر الخاضر، فإن نتيجة المعادلة بقيت ثورة كامنة في داخلية الأب الذي وإن أبدى تسامحه مع نفسه، إلا أنه لم ينس ثأره مع الماضي وإرثه المقدس وصوره المستعبدة، وما مثّله من اذلال له، ليحقق رؤيته وثورته الكاملة ليس على المستوى الشخصي، بل بصورة واسعة شاملة وابعد من ذلك. وهو ما يختلف فيه سليم مع والده، وقد قرر العيش بسلام وهدوء مع فاطمة.
بقي أن نشير إلى أن الروائي العراقي محسن الرملي، استطاع في عنوان رواية «تمر الأصابع» أن يضع في ذهنيتنا دلالة ورمزية العلاقة بين التمر والأصابع، وهو ما يمكن أن نفسره بأن التمر يمثل الحلاوة التي تسكن جانبا جميلا فينا، ونريد نتذوقـه.. نسكر به حسا وإحساسا، ليس في ذكريات الماضي، بل ولحظات الحاضر والمستقبل، شريطة أن تكون بصنعنا، وبأصابعنا!
ربما خرجت الرواية من قائمة البوكر القصيرة لهذا العام، إلا أنها لم تخرج من قائمة الملتقى العربي القصيرة أيضا، والمقتصرة على أعمال أدبية ذات حضور سردي استثنائي ولغة فنية متعددة المستويات، مفتوحة العوالم، قادرة على خلق جادات أدبية وفكرية جديدة، تحرك الساكن والساكت فينا حول مشهد العالم أمامنا.
--------------------------------------------------
- تمر الأصابع: محسن الرملي، الدار العربية للعلوم ناشرون ومنشورات الاختلاف 2009 بيروت.
(*) فهد توفيق الهندال: كاتب وناقد كويتي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في صحيفة (القبس) الكويتية بتاريخ 17/3/2010م العدد 13217
http://www.alqabas.com.kw/Temp/Pages/2010/03/17/40_page.pdf