من طرائف الأدباء والمثقفين!
محسن الرملي
*مزرعة الحيوانات:
حدثني الصديق المهندس عيسى أحمد العزاوي قال: أيام حكم عبدالرحمن عارف للعراق ـ والذي كان الناس يلقبونه بـ (الخَروف) ـ كان لنا صديق مثقف، يجيد الإنكليزية وقد درس في الخارج وهو الدكتور قرني دورمجي، من أوائل العراقيين الذين حصلوا على الدكتوراه بالطب البيطري. ولأنه مهتم بالأدب قام بترجمة رواية جورج أورويل (مزرعة الحيوانات) إلى العربية، وبعد نشرها أرسل نسخة منها، كهدية، إلى ديوان رئاسة الجمهورية، فجاءه بعد أيام كتاب شكر من ديوان الرئاسة؛ يشكره فيه على اهتمامه بالحيوانات وجهوده من أجل تطوير الثروة الحيوانية في العراق..!!.
*شرب وجوائز:
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما كنت طالباً في جامعة بغداد وأسكن في الأقسام الداخلية الكائنة في منطقة (القناة)، وكنت في بداياتي في كتابة القصة، عرَّفني الصديق عبدالمحسن صالح على قاص كان يقيم معنا في القسم الداخلي وقصصه تنشر في الصحف، لا يحضرني اسمه الآن فهو قد توقف عن الكتابة منذ زمن طويل. وفي اللقاء الثاني حملتُ إليه محاولاتي الكتابية كي يعطيني رأيه فيها، ولكنه قبل أن يتناولها سألني: أنتَ تشرَب؟. قلت له: لا. فقال: إذن لن تصبح كاتباً. ولم يأخذ أوراقي. قلت له: لو أن كل من يشرب يصبح كاتباً لصار عدد الكتاب أكثر من عدد القراء في العالم، وإذا كان الشرب شرطاً للكتابة فإنني أفضل أن أكون كاتباً خارجاً على شروط الكتابة. بعد فترة أعلَنت صحيفة (الطلبة والشباب) عن مسابقة في القصة، اشتركَ هو فيها، واشتركتُ أنا أيضاً، وفي اليوم الذي أُعلِنت فيه نتائج المسابقة، حيث لم تظهر قصته هو ولا حتى ضمن الجوائز التقديرية، بينما فازت قصتي (حادث غُش) بالجائزة الأولى مناصفة مع قصة للصديق عبدالهادي الزيدي، وبينما كنت أتناول غدائي في مطعم القسم الداخلي، كالعادة (يابسة: فاصولياء ورز)، مَر هو من أمامي وقال: ها شفت؟.. لو كنت تشرَب كنت فزت بالجائزة كلها لا نصها.
وتكرر هذا الأمر معي بعد ما يقارب العقد والنصف من الزمن، هنا في مدريد سنة 2002، حيث زارنا صديق كاتب يقيم في ألمانيا، وكانت في حينها، الترجمة الإنكليزية لروايتي (الفتيت المبعثر) قد فازت بجائزة جامعة أركنسا، كنا في إحدى الكافتريات، وسألني الصديق: هل تشرَب؟. قلت له: لا. قال: شفت؟.. لو كنت تشرب لكتبتَ رواية أضخَم من هذه.
*كبار في الحمّامات:
من بين أهم الأسماء العالمية في الأدب التي التقيتها مباشرة، هناك خمسة كان لقائي الأول بهم في الحمّامات، ولو لم يتكرر الأمر معي على نحو متشابه لما استحق الانتباه مني وذكره هنا. المشهد ذاته تكرر خمس مرات؛ أنا وهو نقف متجاورين ممسكين بأعضائنا ونبول، ينظر أحدنا إلى الآخر.. ونبتسم!!. حدث هذا في لقائي الأول مع عبدالوهاب البياتي في إحدى سينمات شارع غرامبيا في مدريد سنة 1988، كنت صغير السن والبياتي كان يمثل لي شيئا كبيراً، فحتى لم أكن أحلم بلقائه، أنا الذي قرأت له وعنه وكان ضمن مناهج الدراسة وما إلى ذلك.. لذا كان للموقف رهبة كبيرة وشعور غريب، حيث امتزاج المثالي بالواقعي إلى هذا الحد.. أنا والبياتي نقف معاً متجاورين ونبول مبتسمين لبعضنا ونتبادل بضع كلمات عن الفلم الذي سنشاهده.. ثم تكرر المشهد ذاته مع ماريو فارغاس يوسا في حمّام سينما أخرى واقعة بين (ساحة الشمس) و(تيرسو دي مولينا)، ومع خوان غويتيسولو وأنطونيو تابوتشي في حمّامات (مركز الفنون الجميلة) وسط مدريد، أما مع كاميليو خوسيه ثيلا (جائزة نوبل 1989)، فقد التقينا في حمّامات (فندق ميغيل آنخيل) عندما ذهبت لرؤية صديقي عبدالهادي سعدون هناك.. لذا أتساءل أحياناً فيما لو كانت الحمّامات مشتركة بين النساء والرجال، ترى هل كنت سألتقي فيها بنساء عالميات أيضاً..!!؟.
وعلى ذكر الأول والأخير (البياتي وثيلا)؛ أذكر أنني أعددتُ أسئلة لإجراء مقابلة صحفية مع البياتي في اليوم التالي، فقال اقرأها لي، وعندما قرأت بداياتها، وكان أحدها بهذا المعنى تقريباً: هل مازال البياتي يعتقد بفوائد الأدب في عالمنا المضطرب والمتسارع اليوم؟.. فقال: (بشرفك هو هذا سؤال.. شنو هالحكي!) طبعاً للأدب فوائد.. وأبسط فوائده أنني دفعت حساب الغداء الذي تناولناه الآن.. اسمع يا محسن، أعِد صياغة الأسئلة وهاتها غداً، واحرص على أن تكون مختلفة وليست مكررة، كسؤال الريادة الشعرية و(طيز لِكَن..) وما إلى ذلك مما مللتُ من كثرة الإجابة عليه.
أما كاميلو خوسيه ثيلا، فله طرفة مشهورة ظهرت على شاشة التلفزيون الإسباني، حيث كان حاضراً إحدى جلسات البرلمان التي كانت تُبث مباشرة على الهواء. فعندما أصابه الملل لطول المناقشات والسجالات بين ممثلي الأحزاب والحكومة أو بسبب امتعاضه منها، توسد الطاولة أمامه وبدا كأنه نائم، فناداه رئيس البرلمان عبر الميكروفون: يا سيد ثيلا إنك تنام. فرد عليه ثيلا على الفور: لا يا سيادة الرئيس، أنا أتـناوَم وليس أنام، فهناك فرق بين أن تقول؛ (إنك تُـناك) و(إنك تَـتَـنايك). فضج البرلمان بالضحك.
*عادة سرية للفنانين:
ذات حديث متشعب، أخبرني صديق مسرحي عراقي قارب الستين من العمر، بأنه (يَضرُب جُلُق) أي يمارس العادة السرية، وحين وجدني أضحك غير مُصدق، كونه كبير في السن ومتزوج وأولاده متزوجون وله أحفاد، قال: لا تضحك أنا أتحدث إليك بشكل جاد. (وِلَك هاي شبيك تضحك؟.. والله كَاعِد أحجيلَك صُدُكَـ).. ثم أوضحَ: هذا ما علمني إياه أستاذنا في المسرح إبراهيم جلال، وقال أنه يمارس العادة السرية دائماً، لأن له رأي مفاده: إذا وصل الفنان إلى درجة يعجز فيها خياله الخاص عن إثارته هو نفسه، فكيف سيستطيع إثارة الجمهور والتأثير فيه؟.. لذا فإن عجز خيال الفنان حتى عن تقويم عضوه، فعليه، إذاً، أن يعتزل الفن..
*ترجمة القرآن:
عندما كنت في بدايات تعلمي للترجمة، قرأت مقالاً عن ترجمات (القرآن الكريم)، لا أذكر اسم كاتبها بدقة الآن، ربما كان عبدالحميد العلوجي أو الشيخ جلال الحنفي، من بين ما ذكره فيها أن إحدى الترجمات التركية قامت بترجمة (إن الله لا يستحي من الحق) هكذا: (إن الله أدبسِز حقجي) و(أدبسِز) في العامية العراقية تعني؛ سيئ الأخلاق. وهناك ترجمة فرنسية قامت بترجمة (أنتم لباس لهن وهن لباس لكم) هكذا: ( أنتم بنطلونات لهن وهن بنطلونات لكم).. من يومها وأنا أشك في كل ترجمات القرآن وأحاذر ترجمة النصوص الدينية.
*تصبحون على قَلق:
في الأردن كنت أقيم في مدينة إربد في الشمال، وبين حين وآخر نذهب صديقي الباحث في الأدب العربي خالد المصري وأنا إلى عَمّان لنمضي نهاية الأسبوع فيها، نحضر أمسية أدبية ما، نلتقي بعض الأصدقاء من المثقفين ونرى جديد المكتبات وما إلى ذلك. كنا نذهب صباح الخميس ونعود مساء الجمعة، أما الليلة فكنا نمضيها مع اثنين من إخوة خالد، يعملان في عمان، ويسكنان في غرفة صغيرة يستأجرانها، وهي جـزء من بيت صغير ومتواضع لأحد أقربائهم، يغص بحركة الأطفال وصياحهم. وذات ليلة باردة ممطرة من شتاء عام 1994، دخل علينا في (مقهى الفينيق) الصديق الشاعر سلامة خليل بصحبة أحد أصدقائه وقد تعتعهما السُكر، جلسا معنا، ومن بين ما كنا نتحدث به هو ضرورة أن يكون المبدع قلقاً بشكل دائم ولا يركن إلى الرضى، أن ينام ويصحو على قَلق، لأن القلق إحدى سمات الإبداع ومحركاته.. إلخ، وهكذا وجدنا سلامة وصديقه يتخذان من مفردة (القَـلَـق) لازمة للضحك، مثل أن يطلبا من النادل كأساً من القلق ويضحكان، أو حين يغادر أحد المعارف الموجودين قائلاً: تصبحون على خير، يجيبانه: تصبح على قلق. ويضحكان. المشكلة التي أدركناها لاحقاً بأنهما كانا دون مكان يؤويهما تلك الليلة، فقد سألانا عن المكان الذي كنا سنبيت فيه وأفصحا عن رغبتهما في المبيت معنا أينما كان المكان وكيفما كان حاله. كانا قد أفلسا تماماً تلك الليلة، وكان علينا أنا وخالد أن نتملص منهما لاستحالة اصطحابهما إلى الغرفة الصغيرة كونها وسط بيت لعائلة وكونها لا تتسع لهذا العدد وليس فيها فرش كافية. فتغامزنا ونهضنا للمغادرة، دفعنا ثمن ما احتسياه في (الفينيق)، وقلنا لهما: تصبحان على خير. فيما صاحا هما: تصبحان على قلق. وتعالت ضحكاتهما وسط دهشة الجميع. وكنا قد فكرنا بأن نتأخر في الذهاب للنوم كي نتسلل إلى حجرة إخوته تسللاً دون معرفة العائلة المؤجرِة، فهذا ما اتفقنا عليه معهما. ولأن البرد كان شديداً وبدأ الثلج يهطل بغزارة، كنا ننتقل من مقهى إلى آخر.. كلها متقاربة، لكن المصيبة أننا كلما جلسنا في مقهى يفاجئنا، بعد دقائق، سلامة مع صاحبه بدخولهما ضاحكين وهما يقولان: تصبحان على قلق، ويقهقهان.. وهكذا كنا ننتقل من مقهى إلى آخر وهما يتبعاننا.. حتى بدايات الفجر، وكنا قد اقتربنا من كراج (العبدلي) فقررنا العودة إلى إربد وقد أتعَبنا السهر والمشي والبرد وثيابنا تبلّلت تماماً، وما أن وقفنا تحت إحدى سقائف الكراج بانتظار الباص حتى فاجأنا سلامة وصاحبه، وقد تبلّلت ملابسهما وتلطخ بعضها بالطين ربما لسقوطهما، ويبدو أن أحدهما قد داسَ على غائط، رأينا آثاره على حذائه وفاحت رائحته أكثر عندما اقتربا منا ووقفا معنا وهما يضحكان ويصيحان: تصبحون على قلق. عندها صاح بهما خالد الذي نفذ صبره وهو يشير إلى الحذاء الملطخ بالغائط: بَس.. خلاص يا جماعة، فقد أصبَحنا على خَـرا..
*مزرعة الحيوانات:
حدثني الصديق المهندس عيسى أحمد العزاوي قال: أيام حكم عبدالرحمن عارف للعراق ـ والذي كان الناس يلقبونه بـ (الخَروف) ـ كان لنا صديق مثقف، يجيد الإنكليزية وقد درس في الخارج وهو الدكتور قرني دورمجي، من أوائل العراقيين الذين حصلوا على الدكتوراه بالطب البيطري. ولأنه مهتم بالأدب قام بترجمة رواية جورج أورويل (مزرعة الحيوانات) إلى العربية، وبعد نشرها أرسل نسخة منها، كهدية، إلى ديوان رئاسة الجمهورية، فجاءه بعد أيام كتاب شكر من ديوان الرئاسة؛ يشكره فيه على اهتمامه بالحيوانات وجهوده من أجل تطوير الثروة الحيوانية في العراق..!!.
*شرب وجوائز:
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، عندما كنت طالباً في جامعة بغداد وأسكن في الأقسام الداخلية الكائنة في منطقة (القناة)، وكنت في بداياتي في كتابة القصة، عرَّفني الصديق عبدالمحسن صالح على قاص كان يقيم معنا في القسم الداخلي وقصصه تنشر في الصحف، لا يحضرني اسمه الآن فهو قد توقف عن الكتابة منذ زمن طويل. وفي اللقاء الثاني حملتُ إليه محاولاتي الكتابية كي يعطيني رأيه فيها، ولكنه قبل أن يتناولها سألني: أنتَ تشرَب؟. قلت له: لا. فقال: إذن لن تصبح كاتباً. ولم يأخذ أوراقي. قلت له: لو أن كل من يشرب يصبح كاتباً لصار عدد الكتاب أكثر من عدد القراء في العالم، وإذا كان الشرب شرطاً للكتابة فإنني أفضل أن أكون كاتباً خارجاً على شروط الكتابة. بعد فترة أعلَنت صحيفة (الطلبة والشباب) عن مسابقة في القصة، اشتركَ هو فيها، واشتركتُ أنا أيضاً، وفي اليوم الذي أُعلِنت فيه نتائج المسابقة، حيث لم تظهر قصته هو ولا حتى ضمن الجوائز التقديرية، بينما فازت قصتي (حادث غُش) بالجائزة الأولى مناصفة مع قصة للصديق عبدالهادي الزيدي، وبينما كنت أتناول غدائي في مطعم القسم الداخلي، كالعادة (يابسة: فاصولياء ورز)، مَر هو من أمامي وقال: ها شفت؟.. لو كنت تشرَب كنت فزت بالجائزة كلها لا نصها.
وتكرر هذا الأمر معي بعد ما يقارب العقد والنصف من الزمن، هنا في مدريد سنة 2002، حيث زارنا صديق كاتب يقيم في ألمانيا، وكانت في حينها، الترجمة الإنكليزية لروايتي (الفتيت المبعثر) قد فازت بجائزة جامعة أركنسا، كنا في إحدى الكافتريات، وسألني الصديق: هل تشرَب؟. قلت له: لا. قال: شفت؟.. لو كنت تشرب لكتبتَ رواية أضخَم من هذه.
*كبار في الحمّامات:
من بين أهم الأسماء العالمية في الأدب التي التقيتها مباشرة، هناك خمسة كان لقائي الأول بهم في الحمّامات، ولو لم يتكرر الأمر معي على نحو متشابه لما استحق الانتباه مني وذكره هنا. المشهد ذاته تكرر خمس مرات؛ أنا وهو نقف متجاورين ممسكين بأعضائنا ونبول، ينظر أحدنا إلى الآخر.. ونبتسم!!. حدث هذا في لقائي الأول مع عبدالوهاب البياتي في إحدى سينمات شارع غرامبيا في مدريد سنة 1988، كنت صغير السن والبياتي كان يمثل لي شيئا كبيراً، فحتى لم أكن أحلم بلقائه، أنا الذي قرأت له وعنه وكان ضمن مناهج الدراسة وما إلى ذلك.. لذا كان للموقف رهبة كبيرة وشعور غريب، حيث امتزاج المثالي بالواقعي إلى هذا الحد.. أنا والبياتي نقف معاً متجاورين ونبول مبتسمين لبعضنا ونتبادل بضع كلمات عن الفلم الذي سنشاهده.. ثم تكرر المشهد ذاته مع ماريو فارغاس يوسا في حمّام سينما أخرى واقعة بين (ساحة الشمس) و(تيرسو دي مولينا)، ومع خوان غويتيسولو وأنطونيو تابوتشي في حمّامات (مركز الفنون الجميلة) وسط مدريد، أما مع كاميليو خوسيه ثيلا (جائزة نوبل 1989)، فقد التقينا في حمّامات (فندق ميغيل آنخيل) عندما ذهبت لرؤية صديقي عبدالهادي سعدون هناك.. لذا أتساءل أحياناً فيما لو كانت الحمّامات مشتركة بين النساء والرجال، ترى هل كنت سألتقي فيها بنساء عالميات أيضاً..!!؟.
وعلى ذكر الأول والأخير (البياتي وثيلا)؛ أذكر أنني أعددتُ أسئلة لإجراء مقابلة صحفية مع البياتي في اليوم التالي، فقال اقرأها لي، وعندما قرأت بداياتها، وكان أحدها بهذا المعنى تقريباً: هل مازال البياتي يعتقد بفوائد الأدب في عالمنا المضطرب والمتسارع اليوم؟.. فقال: (بشرفك هو هذا سؤال.. شنو هالحكي!) طبعاً للأدب فوائد.. وأبسط فوائده أنني دفعت حساب الغداء الذي تناولناه الآن.. اسمع يا محسن، أعِد صياغة الأسئلة وهاتها غداً، واحرص على أن تكون مختلفة وليست مكررة، كسؤال الريادة الشعرية و(طيز لِكَن..) وما إلى ذلك مما مللتُ من كثرة الإجابة عليه.
أما كاميلو خوسيه ثيلا، فله طرفة مشهورة ظهرت على شاشة التلفزيون الإسباني، حيث كان حاضراً إحدى جلسات البرلمان التي كانت تُبث مباشرة على الهواء. فعندما أصابه الملل لطول المناقشات والسجالات بين ممثلي الأحزاب والحكومة أو بسبب امتعاضه منها، توسد الطاولة أمامه وبدا كأنه نائم، فناداه رئيس البرلمان عبر الميكروفون: يا سيد ثيلا إنك تنام. فرد عليه ثيلا على الفور: لا يا سيادة الرئيس، أنا أتـناوَم وليس أنام، فهناك فرق بين أن تقول؛ (إنك تُـناك) و(إنك تَـتَـنايك). فضج البرلمان بالضحك.
*عادة سرية للفنانين:
ذات حديث متشعب، أخبرني صديق مسرحي عراقي قارب الستين من العمر، بأنه (يَضرُب جُلُق) أي يمارس العادة السرية، وحين وجدني أضحك غير مُصدق، كونه كبير في السن ومتزوج وأولاده متزوجون وله أحفاد، قال: لا تضحك أنا أتحدث إليك بشكل جاد. (وِلَك هاي شبيك تضحك؟.. والله كَاعِد أحجيلَك صُدُكَـ).. ثم أوضحَ: هذا ما علمني إياه أستاذنا في المسرح إبراهيم جلال، وقال أنه يمارس العادة السرية دائماً، لأن له رأي مفاده: إذا وصل الفنان إلى درجة يعجز فيها خياله الخاص عن إثارته هو نفسه، فكيف سيستطيع إثارة الجمهور والتأثير فيه؟.. لذا فإن عجز خيال الفنان حتى عن تقويم عضوه، فعليه، إذاً، أن يعتزل الفن..
*ترجمة القرآن:
عندما كنت في بدايات تعلمي للترجمة، قرأت مقالاً عن ترجمات (القرآن الكريم)، لا أذكر اسم كاتبها بدقة الآن، ربما كان عبدالحميد العلوجي أو الشيخ جلال الحنفي، من بين ما ذكره فيها أن إحدى الترجمات التركية قامت بترجمة (إن الله لا يستحي من الحق) هكذا: (إن الله أدبسِز حقجي) و(أدبسِز) في العامية العراقية تعني؛ سيئ الأخلاق. وهناك ترجمة فرنسية قامت بترجمة (أنتم لباس لهن وهن لباس لكم) هكذا: ( أنتم بنطلونات لهن وهن بنطلونات لكم).. من يومها وأنا أشك في كل ترجمات القرآن وأحاذر ترجمة النصوص الدينية.
*تصبحون على قَلق:
في الأردن كنت أقيم في مدينة إربد في الشمال، وبين حين وآخر نذهب صديقي الباحث في الأدب العربي خالد المصري وأنا إلى عَمّان لنمضي نهاية الأسبوع فيها، نحضر أمسية أدبية ما، نلتقي بعض الأصدقاء من المثقفين ونرى جديد المكتبات وما إلى ذلك. كنا نذهب صباح الخميس ونعود مساء الجمعة، أما الليلة فكنا نمضيها مع اثنين من إخوة خالد، يعملان في عمان، ويسكنان في غرفة صغيرة يستأجرانها، وهي جـزء من بيت صغير ومتواضع لأحد أقربائهم، يغص بحركة الأطفال وصياحهم. وذات ليلة باردة ممطرة من شتاء عام 1994، دخل علينا في (مقهى الفينيق) الصديق الشاعر سلامة خليل بصحبة أحد أصدقائه وقد تعتعهما السُكر، جلسا معنا، ومن بين ما كنا نتحدث به هو ضرورة أن يكون المبدع قلقاً بشكل دائم ولا يركن إلى الرضى، أن ينام ويصحو على قَلق، لأن القلق إحدى سمات الإبداع ومحركاته.. إلخ، وهكذا وجدنا سلامة وصديقه يتخذان من مفردة (القَـلَـق) لازمة للضحك، مثل أن يطلبا من النادل كأساً من القلق ويضحكان، أو حين يغادر أحد المعارف الموجودين قائلاً: تصبحون على خير، يجيبانه: تصبح على قلق. ويضحكان. المشكلة التي أدركناها لاحقاً بأنهما كانا دون مكان يؤويهما تلك الليلة، فقد سألانا عن المكان الذي كنا سنبيت فيه وأفصحا عن رغبتهما في المبيت معنا أينما كان المكان وكيفما كان حاله. كانا قد أفلسا تماماً تلك الليلة، وكان علينا أنا وخالد أن نتملص منهما لاستحالة اصطحابهما إلى الغرفة الصغيرة كونها وسط بيت لعائلة وكونها لا تتسع لهذا العدد وليس فيها فرش كافية. فتغامزنا ونهضنا للمغادرة، دفعنا ثمن ما احتسياه في (الفينيق)، وقلنا لهما: تصبحان على خير. فيما صاحا هما: تصبحان على قلق. وتعالت ضحكاتهما وسط دهشة الجميع. وكنا قد فكرنا بأن نتأخر في الذهاب للنوم كي نتسلل إلى حجرة إخوته تسللاً دون معرفة العائلة المؤجرِة، فهذا ما اتفقنا عليه معهما. ولأن البرد كان شديداً وبدأ الثلج يهطل بغزارة، كنا ننتقل من مقهى إلى آخر.. كلها متقاربة، لكن المصيبة أننا كلما جلسنا في مقهى يفاجئنا، بعد دقائق، سلامة مع صاحبه بدخولهما ضاحكين وهما يقولان: تصبحان على قلق، ويقهقهان.. وهكذا كنا ننتقل من مقهى إلى آخر وهما يتبعاننا.. حتى بدايات الفجر، وكنا قد اقتربنا من كراج (العبدلي) فقررنا العودة إلى إربد وقد أتعَبنا السهر والمشي والبرد وثيابنا تبلّلت تماماً، وما أن وقفنا تحت إحدى سقائف الكراج بانتظار الباص حتى فاجأنا سلامة وصاحبه، وقد تبلّلت ملابسهما وتلطخ بعضها بالطين ربما لسقوطهما، ويبدو أن أحدهما قد داسَ على غائط، رأينا آثاره على حذائه وفاحت رائحته أكثر عندما اقتربا منا ووقفا معنا وهما يضحكان ويصيحان: تصبحون على قلق. عندها صاح بهما خالد الذي نفذ صبره وهو يشير إلى الحذاء الملطخ بالغائط: بَس.. خلاص يا جماعة، فقد أصبَحنا على خَـرا..
-----------------------------------------------------------
*رسوم الكاريكاتير (محسن الرملي) بريشة الفنان العراقي عبدالكريم سعدون.