قراءة أمريكية لرواية عراقية:
" الفَتيت المبعثَر" لـ "محسن الرملي "
شؤون عائلية ..
هارولد برازويل
ترجمة: جلال نعيم
لعلّ واحدة من "التأثيرات الجانبية" للحرب الحاليّة في العراق، هو خلق "مواطَنة عالمية" مركزها الحديقة الخلفية للشرق الأوسط، مما جعل حتى الناس البسطاء يناقشون، بفاعليّة عالية، معضلات السنّة والشيعة والأكراد.. وكأنهم يشرحون الصلة التي يتوخونها من السمن المتقاطر من لحوم مختلفة على شوائهم ـ إذا جاز التعبيرـ. ولاشك بأنه ليس هنالك من خطأ في ذلك الاهتمام الكبير بالعراق، لكن المشكلة التي تكمن في النقاشات الحاليّة، هو الاعتقاد الخاطئ بأنه من الممكن إيجاد فهم مباشر وسريع لتلك المعضلات من خلال الفهم السياسي وحده.
إن الكاتب العراقي محسن الرملي يعرف جيدا محدوديّة هذا الجدال حول العراق. ففي مقال له منشور في 20 آذار/مارس/2003، في مجلّة (El cultural)الثقافية الأسبوعية الإسبانية (هاجر الرملي إلى إسبانيا عام 1995) حيث ينبه الرملي، بحماسة، إلى أن العراق قد عُرفَ عالميّاً إمّا كمنطقة فوّارة أو كتهديد دولي، فيما لم يتطرّق أحد إلى إرثه الثقافي وغناه في هذا المجال، ثم يحاول ان يملأ هذا النقص متحدّثاً عن دور الشعر في المجتمع العراقي كقوّة محقّقة للتجانس العرقي والوحدة الثقافيّة. ويبدو هذا الطرح بعيداً عن نظرة القرّاء المتشائمين الأمريكان، وخارج نطاق جاذبيتهم، خاصّة وأن الرملي قد طرح ذلك خلال الأيام الأولى للقصف الأميركي لبغداد. ولعلّ هذه مجرّد إشارة الى مدى ابتعادنا عن ملامسة الواقع العراقي.
المترجم المثابر، الشاعر، الكاتب المسرحي والروائي "محسن الرملي" خصّص نفسه لزيادة وتعميق الاختراق الثقافي أو الصلة ما بين العراق والبلد الذي تبناه (إسبانيا). وروايته "الفتيت المبعثَر" تصوّر حياة عائلة كبيرة تحت نير الدكتاتوريّة، وتضيف إضاءة على الصورة الغائمة للتعقيدات التي عاشها الشعب العراقي. وهو الآن سكرتير تحرير لمجلة (ألواح) وهي مجلة ثقافية عربية (ألواح كلمة عربية تعني tables اللوحة التي يكتب عليها القانون..!). يكتب الرملي بالعربية والإسبانية، وقد ترجم بعضا من الأعمال الأدبيّة الإسبانية الرئيسية إلى اللغة العربية، كما ترجم قصائد مهمة الى الإسبانية. "الفتيت المبعثر" ـ المنشورة في مصر عام 2000 ـ هي عمله الأول الذي أصبح ممكنا لقرّاء الإنكليزية بترجمة "ياسمين حنوش"، وهي رواية مؤثرة وذات ثيمة مكثفة، ورغم تركيزها على جزئيات محدّدة، إلا أنها يمكن أن تقدم لنا ولو خطوة أولى نحو فهم الحياة اليومية في العراق.
الراوي، في "الفتيت المبعثر"، هو منفي عراقي، حاله كحال الكاتب، ومثله يعيش في إسبانيا أيضاً، ويدعي بأنه ترك بلده بحثاً عن إبن عمته المفقود "محمود"، الذي غادر العراق قبله بفترة. علماً بأن تركيز الرواية لم ينصبّ على هذا البحث، وإنما كانت عن أفراد عائلة محمود.. هذه الشخوص: الأب، الأم والأخوة الثمانية.. هذه الشخصيات التي رُسمت بحِرفية عالية، ومُدارة بشكل يبرز غرابة أطوارها من دون السقوط في الكاريكاتوريّة، فـ"عجيل" (رب الأسرة) تتملّكه الروح (الوطنية) بقدر عال من الطرافة الخطرة، هذه الطرافة التي تتضح من خلال تحسّره على زمن أبيه عندما طعن ذلك "الابن المومس الضابط الإنكليزي"، وعادته بالإشارة الى كل ما يحبه على أنه: "nationan" بتلفظه الخاطئ للكلمة الإنكليزية "nation" (أمة)، وباحترامه للزعماء (وكان صدام حسين واحداً منهم طبعاً!) وهو ما يتضح من خلال تفاعله العنيف مع الاحتفالات الرسميّة وغرامه بمشاهدة مسلسلات رعاة البقر من خلال التلفزيون الحكومي، وفي نزعته الى تقييم الناس فقط على أساس قدرتهم على تشريف البلاد من زاوية وطنيته الأكثر تعصباً. وقد كان الابن "عبد الواحد" أشد كفراً من شوفينية الأب، والذي ينال أعلى درجات الاستحسان الأبوي بأعلى كلفة، بأن دفع حياته ثمنا في الحرب مع إيران، وهو ما لم يحدث لأبناء عجيل الآخرين، وكان عليهم ان يدفعوا ذلك من خلال غضب الأب الدائم وعدم رضاه. ومنهم "قاسم" الفنان البائس الذي تربطه بزوجته علاقة حب عنيفة، هذه العلاقة التي منحت الرواية الكثير من الشفافية واللحظات الرومانسية. أما البنت الوحيدة في العائلة "وردة"، فتبدو شديدة الاستقلاليّة وكأنها تنتمي الى عائلة أخرى، رغم أنه كان من الواضح اقترابها من "قاسم".
تتمركز الرواية حول العلاقة ما بين "قاسم" و"عجيل"، ففي لحظة بالغة الظرافة يطلب "عجيل" من "قاسم" بأن يرسم له بورتريه لـ"القائد" على جدار منزلهم، فيخيّب الأخير رجاء والده، لأنه يعي مدى خسّة ونذالة هذا القائد ورجاله، ولكي يداري خاطر أبيه يستبدل رسم صورة "الرئيس" برسم لوحة للعراق نفسه: خارطة حمراء مع نهرين أبيضين يجريان عبر قلب أخضر كبير. هذه اللوحة التي تكشف مدى حب قاسم لبلاده، وليس لحكامها، وتكشف عمق امتنانه للبلاد، وسعة تراجيديا الحياة فيها: حيث الأحمر هو دمها، وبياض دجلة والفرات هو دمعها، بينما يرمز القلب الأخضر الكبير إلى عظمة الحب المكنون لها، وإذا ما أُخذت معاً فهي ستشكّل ألوان العَلم العراقي (باستثناء الأسود الذي ستضيفه "وردة" لاحقاً بعد الاستئذان من "قاسم"). يختلط الأمر على "عجيل" حالما تسقط نظراته على اللوحة للمرّة الأولى متسائلا في سرّه عن السبب الذي جعل الأرض حمراء وليست خضراء؟ ولم ينتظر "قاسم"، أن يُصدم أباه من ذلك، فراح يبرّره بمذاق اللون الذي يمنح اللوحة إحساساً فنياً أفضل، ليثبت له بانه هو الرجل الذي أراده. لقد كان المشهد سياسيّاً ونفسيّاً مركباً، ميّزها "الرملي" بشكل متفرّد، في عرض ديناميكي جمع الأب والابن، في التقاطة جميلة، خجولة، في مشهد له مذاق عالمي.
ويأتي تجنيد "قاسم" ليشكل حلقة فاصلة، فهو لا يريد الموت في حرب لا يؤمن بها، أما بالنسبة لـ"عجيل" فيعتبر هذا مما لا يمكن غفرانه، ولهذا هدّده من انه سيتبرأ منه حتى الموت إذا لم يلتحق بالجيش، وقد أخبره "قاسم" من أنه سيكون شاهداً على إعدامه، وهو ما يصفه الكاتب بتعاطف شديد وحس إنساني قوي:
" أراد قاسم أن يوضّح لأبيه أموراً كثيرة، أو أن ينظر في نظاراته العزيزة نظرة أخيرة ويعتذر منه عن سيل أحزانه القادمة، أو يُلمح إلى انعدام الفرق بين مقتله ومقتل عبد الواحد، فالقاتل واحد والدافع واحد، ومدير الشرطة الذي منحه وسام شجاعة عبدالواحد هو ذاته الذي سيأخذ منه ثمن رصاصات إعدام قاسم ويكتب على تابوته "خائن".
يتمنى قاسم هنا، قبل إعدامه، في أن يحصل على مسامحة أبيه وغفرانه، إضافة إلى رغبته بانتقاد إيمانه الأهوج بالسياسيين. وتحتدم عاطفيّة المشهد وتأمليّته عندما يتجاهل "عجيل" الرجاء الأخير لولده، ولا يمنحه غفرانه، حتى بعد مقتله، وهو أقصى عقاب سيعيشه الأب نفسه من جراء طاعته العمياء لـ"قادته". وعند نهاية الكتاب يستنتج عجيل مستغرباً بأن كليهما، عبد الواحد وقاسم، يحملان الدم نفسه، وهو دمه هو بالذات ".. وجَعه يتكرس كلما أطال النظر إلى الصورة التي يبصر فيها وجه قاسم أحياناً.. الولد البِكر الذي بشر مقدمَه عجيلاً بسلامة رجولته، إلا أن موته الآن بهذه الفجيعة يضعه على تقاطع الحواف الحادة: بين عبدالواحد وقاسم، أيهما الذي..؟ أسئلة.. أسئلة ولا يعرف ماذا يقول.. تستعصي التعابير كعادتها في حنجرته الموخوزة.. كلاهما من صلبه، فيعاود النظر إلى الخريطة الحمراء التي أخذتهما معاً.. وإلى شكل الأخذ؟؟.. النتيجة: أنها أخذتهم، فتدمع عيناه ويسيل خيط الدم من تفاحة آدم (..) رسمَت وردة بحافة خبزة محترقة سهماً أسوداً على الخريطة اخترق منتصف القلب الأخضر وقلب الوطن الأحمر.. أنزلت السهم بعنف ولوعة، وما أن وضعت رأسه المدبب حتى سمعت خلفها هتاف والدها: "نعم.. نعم فهمتُ يا قاسم". التفتَت إليه، كان يمد إصبعه باتجاه اللوحة، يرفع رأسه كأنه يحاول النهوض، ركضت نحوه لتساعده لكنه أشار لها بتركه.. ازداد بعدها صمته ونزيف إبرته وذوبانه التدريجي يوماً بعد آخر حتى تماهى بعدها في فراشه ومات.. فكان خفيفاً أبيض، كحمامة بيضاء ميتة، حين حملوه ليستقر بجوار قبور أبنائه".
يبدو جلياً، من مختلف مفاصل الرواية، بأن كاتبها ينتقد ويفضح، بجدّية وصرامة، نظام صدام حسين وحكمه، وجاء ذلك في سياق الرواية وبشكل غير مباشر، ويبدو واضحاً من الدمار الذي لحق بعائلة محمود بكل تلك القسوة، فـ "الفتيت المبعثَر" في النهاية، هم هؤلاء المواطنون الذين سحقهم قادتهم السياسييّن. ويتضح ذلك أيضاً في المشهد الأخير من الرواية، حيث قاد حقد "وردة" على الـ "القائد" جرّاء قتل أخيها، للارتباط بـ"إسماعيل" ناسِك القرية، الذي تشاركه فقط بكرهه للديكتاتور، وهي إشارة إلى الارتباط الحاد ما بين السياسي والشخصي في بلاد يتدخل فيها التأثير السياسي حتى في غرف النوم. هكذا نرى "وردة" و"إسماعيل"، في ظهورهما الأخير في الرواية، يتخيّلان انتقامهما من "القائد" حتى وهما يمارسان الحب.
ربما يكمن الضعف الأبرز في "الفتيت المبعثر" في بحث الراوي عن ابن عمته "محمود". فلم يوضح لنا بشكل كاف أسباب بحثه عنه، ولا نعرف الدور الذي يلعبه "محمود" في قصة العائلة، وبالنتيجة، لا شيء هناك يتطلب وجوده، وليس هنالك من شخصيّة محددة له ليكمل ملامحها، أو يعرّف بغيابها او يميّزها. الراوي يصف بديله بـ"اللا شيء"، "كظل للشخصية" أو أحد ما، إلا أن "حضوره لا يمثل شيئا" حتى أن الراوي يعترف بانه "ليس هناك سبب حقيقي للبحث عنه وإيجاده في البلاد الغريبة". وكذلك فصول الرواية التي لا تمت بصلة إلى محمود. كما تبدو البداية فقيرة، وغير مرسومة بشكل جيد وهو ما أشك بأنه سيدفع بعض القراء الى تركها، وهو ما سيكون حكما متسرّعاً وغير مناسب بالتأكيد، لأن أغلب الكتاب يتناول عائلة محمود خلال الحرب العراقية الإيرانية. ولعلّ "الفتيت المبعثر" تميّز نفسها عبر شيء هو أكبر من شهادة سياسية أو من مجرد فضول ثقافي.
وبما أن أغلب الحديث عن العراق هو ذو طابع سياسي، فمن الممكن أن يُقرا هذا العمل من زاوية المؤثرات السياسية، وإدانة صدام حسين، ولا شك بأن الطبيعة المرعبة لنظام صدام حسين كانت واضحة في مفاصل الرواية. ولكن كلّ منا بات يعرف ذلك، وإذا ما كانت "الفتيت المبعثر" لم تقم بأكثر من تأكيده، فإنها لن تكون أكثر من مجرد رواية، ولحسن الحظ بأن الكاتب قد ذهب بنا لأبعد من ذلك، فهي رواية تضيف تمثيلاً متجسّداً من لحم ودم يضاف للهيكل الذي نعرفه عن الشعب العراقي. لقد رسمت لنا "الفتيت المبعثر" الدكتاتور من خلال معضلات عائلة حقيقية عانت من حكمه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*هارولد برازويل: كاتب أمريكي، والمقال منشور في Powells Books
------------------------------------------------------
*نشرت في صحيفة (الزمان) العدد 1938 بتاريخ 12-13/10/2004م. بغداد. وفي مواقع ثقافية أخرى.