فحوصات
ثقافية
شُجون
جَد الفُنون
بقلم: الدكتور محسن الرملي
بعد عشرة أعوام من آخر لقاء لي، مع صديقة رسامة أرجنتينية في مدريد، وجدتها
تشتكي، أيضاً، من تزايد هموم الفن التشكيلي.
في عالم الثقافة والفنون اليوم، إذا كنا نتحدث عن مُشكلات الأدب كثيراً،
فإن مشاكل الفن التشكيلي أكثر، وإذا كانت الأعمال الأدبية ما زالت تحظى ببعض
المعايير، حتى من قِبل المتلقي البسيط، فإنها في الفن التشكيلي قد تبدَّدت تماماً،
وإذا كان الأديب لا يحتاج سوى إلى قلم وورقة أو حاسوب، فالرسام يحتاج إلى أدوات
ومواد كثيرة، كلها غالية الثمن. الكاتب يستطيع الكتابة في أي مكان، في المكتب
والمقهى والطائرة والقطار وغرفة النوم، أما الرسام فلا، ولم تعُد البيوت الصغيرة
صالحة لممارسة عمله بكل أدواته، بأحجامها وروائحها ولُطَخ الألوان، يحتاج إلى
استوديو مُستقل، والنقل معضلة أخرى، ففي الوقت الذي يمكن للأديب نقل نصه من مكان
إلى آخر، عبر البريد الإلكتروني، دون أن يكلفه ذلك مالاً أو وقتاً، ولا يقلل من
جودة النص، فإن نقل لوحة من بلد إلى آخر يحتاج إلى إجراءات كثيرة ومبالغ طائلة،
فكيف بنقل معرض كامل من خمسين لوحة! عدا صعوبة إيجاد صالة جيدة أو غاليري للعرض،
وإذا تم العرض، فالجمهور قليل والبيع أقل. إن منظر الرسام وحيداً بين لوحات معرضه
بانتظار أي زائر.. يُثير الأسى.
يحز في نفوس الفنانين سوء توزيع فنهم، للوصول إلى الجمهور، وفي سوق الفن
ثمة أيدي غامضة، تتلاعب بالشُهرة والأسعار، فترفع من شأن صندوق فارغ ليصل سعره إلى
أربعين ألف دولار، وموزة مُعلّقة بشريط لاصق على جدار لتُباع بستة ملايين دولار،
ولوحة بيضاء تماماً لروبرت رايمان بعشرين مليون دولار، بينما لوحة زيتيّة يبذل
فيها الفنان ستة أشهر من العمل، لا يجد من يشتريها بألف دولار... ليس ثمة منطق أو مبرر
للأسعار في سوق الفن الحالي، حيث تصبح "شهرة" الفنان أكثر أهمية من أي
نوع من المعايير. ونحن الذين أحببنا الفن، كتعبير عن براعة وذكاء الإنسان، عن قدرته
على التعبير وارتياده لآفاق جديدة في الرؤى والأفكار والجمال، ما الذي تقدمه لنا
رؤية صندوق فارغ أو موزة على حائط أو صفحة بيضاء؟ بصراحة: لا شيء.
ثمة غياب لتيارات بارزة مُقنِعة، وشعور بأن الأمور ليست واضحة، مع مخاوف من
إلغاء حضور هذا الفن، ولا سيما مع دخول الذكاء الاصطناعي على الخط، فالمؤسسات
والفنادق والبنوك والبيوت التي كانت تقتني لوحات حقيقية، راحت تلجأ إلى تصميمها في
الذكاء الاصطناعي بكل سهولة ورخص.
يكفي أن تلتقي بأي رسام، ليعرض عليك المزيد من مشاكله، ومن النادر أن تجد
أحدهم يستطيع العيش من فنه... لذا؛ يحتاج الأمر إلى وقفة جادة من قبل المؤسسات والفنانين
أنفسهم، إلى مؤتمرات وطروحات جديدة تُنقذ هذا الفن العريق الذي رافق الإنسان منذ
شخبطته الأولى في الكهوف، فإذا كان المسرح يُسمى "أبو الفنون" فالرسم
جَدّها، لأنه أول فن مارسه الإنسان، وهو أول نشاط فني يبدأ به الطفل، وعلينا إعادة
الاهتمام به منذ الطفولة، عِبر التعليم، في كل المراحل، بالتثقيف، ولو بأساسياته
وتذوقه، لخلق أجيال وجمهور يُقدِّر أهميته وجمالياته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (كتاب)،
العدد 80 يونيو 2025م الشارقة
https://xsi.sibf.com/content/uploads/publisherweekly/pdf/2_7e8281f13e244fc4b17ad3bf55229c.pdf
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق