السبت، 9 أكتوبر 2010

عن: رواية الخيال العلمي / د.محسن الرملي


خصائص رواية الخيال العلمي
.. إشكالياتها وأسئلة المستقبل

د. محسن الرملي
مَدخَـل:
الغالبية العظمى منا نحن المهتمون بالأدب قراءة وكتابة، إنتاج وتلقي، نكاد لا نلتفت إلى ما يسمى بأدب (الخيال العلمي Science Fiction) على الإطلاق ونكتفي بمعرفة معلوماتية سطحية عامة وغامضة عنه، بل إننا نحمل نوعاً من الصدود والتجاهل المُطَعَّم بالرفض تجاهه، بحيث نعتبره طارئاً، هجيناً وطفيلياً يقبع على هامش الأدب وليس في متنه. ومما يضايق المهتمين في حقل الخيال العلمي أيضاً ـ ولهم الحق في ذلك ـ هو التعبير السائد عند العموم بوصف الكذب أو ما يُعتقد أنه مستحيل بأنه (خيال علمي) وفق نبرة مفعمة بالاستخفاف.. ويرى فيه البعض مجرد كتابات صبيانية يستهلكها الصبية المراهقين والأطفال، وما هو إلا نوع من الترف المعرفي الذي لا يخدم الأدب الحقيقي، فلا هو بالأدب ولا هو بالعلم، وأن تلك التنبؤات (الأدبية) التي تحققت لاحقاً تدلل على أن ما كتب باسم الأدب هو في الأصل طروحات علمية ـ غير واثقة من علميتها ـ لا أدبية. أو هي نتاج غيرة العلماء ـ وخاصة الفاشلين منهم علمياً ـ من شهرة الأدباء.. وما إلى ذلك من قائمة اتهامات واستبعادات تطول وتتشعب.. هذا على الرغم من أن عطاء الخيال العلمي يواجهنا كل يوم في إشاراته وحضوره عبر الكتب والتلفزيون والسينما والراديو والصحف والمجلات والرسوم وله جمعيات ومؤتمرات واتحادات وجوائز ودور نشر.. ومن ثم هذا الحضور الطاغي له عبر الموجة الإلكترونية الحالية التي أصبحت جزءً من حياتنا اليومين من خلال الانترنيت.. وما أكثر ما نستهلكه من منتوجات هذا الجنس الثقافي دون التوقف قليلاً والتفكير بعملية هضمنا واستيعابنا له وتشكيل موقف واضح حياله. أو على الأقل التعرف عليه بشكل أفضل؛ هويته، تاريخه، خصائصه، كبار كتابه، مواضيعه، إشكالياته وأفاق مستقبله.. وهذا ما سوف أحاول القيام به هنا بشكل موجز قدر الإمكان.
بالنسبة لي، شخصياً، فقد لفت انتباهي إلى هذا الأمر الشاعر عبدالوهاب البياتي سنة 1988 حين التقينا في مدريد ودعاني لمشاهدة فلم في السينما يتعلق بالفضاء وحرب النجوم، وحين سألته باستغراب، كوننا هو وأنا لم نكن نعرف حينها من اللغة الإسبانية، التي تمت دبلجة الفلم بها، إلا بضعة كلمات؟. قال بأنه لا يهمه الحوار واللغة فيه وإنما الخيال والتكنلوجيا، وقرأت له مقابلة بعد أعوام يشير فيها إلى هذا الأمر بالقول:"قد لا أكون مازحاً، إذا ما قلت لك أن اهتمامي بروايات الخيال العلمي وعلوم الفضاء، قد منحني مناخاً خاصاً أكتب فيه، فالذي يقرأ آخر قصيدة لي قد يستغرب ويسأل متى كتبت هذه القصيدة، ولا يسأل ما هو الشكل الذي كتبت فيه؛ فهي قصيدة نالت اهتمام الشباب والقراء بمختلف مستوياتهم الثقافية، (..). لقد دخلت مرحلة جديدة في حياتي، هي مرحلة المـتأمل في وجه الموت"(1).
إن جل ما يطالب به المشتغلون في ميدان الخيال العلمي هو الاعتراف بنتاجهم واعتباره غصناً أساسياً ومحترماً من بين أغصان شجرة الأدب، وهم يستغربون إعجاب الناس بمشهد النجوم في الليل دون أن يحاولوا معرفة المزيد عن هذه النجوم مثلاً، وهنا يصفون الأمر بأنه نوع من الكسل والتقاعس عن بذل جهد ذهني عقلي في المعرفة والاتكاء والاكتفاء بما تقدمه الأشياء من ذاتها كما هي. ويرون دورهم مهماً وحيوياً على صعيد التعريف بالمنجزات العلمية ومن جهة أخرى برفد الأدب بمواضيع وميادين جديدة، لذا فهم يدعون إلى الاستفادة من أدب الخيال العمي كوسيلة لإشاعة المعرفة العلمية، وهو أمر سيقوم في الوقت ذاته بإشاعة وانتشار رواية الخيال العلمي.

تعاريـف:
إن تحديد تعريفاً وافياً وقطعياً لمفهوم أو اصطلاح (الخيال العلمي Science Fiction) يعد من القضايا التي لم يتم الاتفاق عليها بشكل نهائي، فثمة الكثير جداً من التعريفات، وهناك كثر ممن يغامرون بوضعها، إلا أنه ما من أحد قادر على وصف هذا الجنس الثقافي بحيث يرضي الجميع، وربما يعود هذا الأمر لشساعة وتعدد المواضيع التي يتطرق إليها ولتعدد وجهات النظر التي تتناوله. وعلى الرغم من ذلك فإن كل قارئ متابع لهذا الجنس يعرف جيداً أو، على الأقل، لديه حدس بديهي في تمييز ما هو خيال علمي عن سواه. في اللغة الإسبانية وحدها أحصيت أكثر من خمسين تعريفاً، وهي بالطبع تعريفات تتباين فيما بينها قليلاً أو كثيراً إلا أن القاسم المشترك بينها هو ذلك الذي يتفق على اعتبار العلم أو ما هو علمي منطقي، وليس بالضرورة واقعي تم تجريبه، عنصراً جوهرياً في تكوين أي نتاج ينتمي إلى هذا التصنيف. إنه نوع من الخيال النظري الذي تقدم القصص من خلاله تصوراً عن تأثيرات التقدم العلمي والتكنولوجي على الأفراد أو المجتمع حاضراً أو مستقبلاً، أي أنه ليس خيالاً محضاً وإنما ينطلق من الحقائق العلمية المتحققة موسعاً من افتراضاته، المنطقية إلى حد ما، وليست، بالضرورة، الصحيحة علمياً والمستندة على منهج تجريبي، إلا أنها تبقى في النهاية مبنية على نتائج الحقائق العلمية المعروفة وتكون افتراضاتها مستساغة ومطروحة بشكل مبسط خالي من تفاصيل تعقيدات وتشعبات الشروح العلمية، وتعامل الخيال العلمي مع افتراضات تطور الطفرات والاكتشفات العلمية الهائلة إنما هو نوع من تعبير الإنسان عن قلقه تجاه هذا التطور التكنولوجي الذي قد يؤدي للإضرار به، كما هو حاصل في اختراع أسلحة الدمار الشامل مثلاً، أو للتعبير عن تفاؤله به وأمله في أن يفتح هذا التطور العلمي أفاقاً لخير البشرية كما هو حاصل في الاكتشافات الطبية مثلاً. وهو في كل الأحوال "صورة من الأدب الإمتاعي بغض النظر عن درجة المعرفة العلمية التي قد يكون الخيال العلمي قائماً عليها" على حد قول فالنتينا إيفاشيفا(2)، والتي ترى بان الفجوة بين الخيال العلمي والألوان الأدبية الأخرى آخذة بالانكماش. وفي الأصل كانت بدايات هذا الجنس في الأدب، ثم انتقل إلى السينما محققاً النجاح في كليهما على امتداد القرن العشرين.
إسحاق عظيموف أحد أكبر كُتاب هذا النوع يقول:" إن الخيال العلمي هو الصنف الأدبي الذي يعالج مسألة الإجابة الإنسانية على التغيرات الحاصلة على صعيد العلم والتكنولوجيا"(3). وجاء في تعريف الدكتور أميت جوسوامي أستاذ الفيزياء بجامعة أوريجون الأمريكية، وأحد كتاب الخيال العلمي، أنه " هو ذلك الضرب من الرواية الذي يعرض لتيارات التغير في العلم والمجتمع، فهو يهتم بنقض النماذج العلمية الثابتة، وتوسيع نظامها، وإعادة النظر فيها، واتخاذ نهج ثوري إزاءها. إن هدفه هو العمل على تحويل زاوية النظر إلى تلك النماذج، بحيث تبدو أكثر تجاوباً وتوافقاً مع الطبيعة"(4). فيما يعرفه أحد أعمدة كتابته عربياً، الدكتور طالب عمران بأنه "الانتقال عبر آفاق الزمن، على أجنحة الحلم المُطَعَّم بالمكتسبات العلمية، وغالباً ما يطرق مؤلفوه أبواب المستقبل بتنبؤاتهم دون زمن محدد، فهو نظرة واسعة إلى العالم يدخل فيها العلم فيمتزج بحقائقه مع خيال الكاتب، ترسم أحداث تنقلك إلى المستقبل، أو الماضي السحيق، فتثيرك وتذهلك. والرابطة بين الخيال والعلم رابطة مؤطرة متماسكة، ومن يكتب في هذا النوع من الأدب لن ينجح دون ثقافة علمية ممتازة يستخدمها في أحداث قصصه ورواياته"(5).. وهكذا تتعدد تعريفات أدب الخيال العلمي إلى حد أن يناقض بعضها أحياناً، ومن ذلك يشترط البعض أن يكون كاتبها عالماً أو ملماً بالعلم فيما لا يشترط غيرهم ذلك، ويرى البعض بأنه ذلك الأدب الذي يتناول ما يعتقد الرأي العام أنه أمر ممكن الحدوث تحت ظروف معينة، وهذا أيضاً يعد مفهوماً فيه نوع من المخاطرة، لأنه ليس بالإمكان أن نتفق أو نعرف بشكل موضوعي وقطعي حول ما سوف نعتبره (ممكن) أو (غير ممكن). وعلى أية حال فإننا قد نتفق أكثر مع ما يراه الدكتور ويلز ميكنيلي من جامعة كاليفورنيا؛ بأن البطل الحقيقي لأية قصة أو رواية إنما هو الفكرة الجديدة وليس الشخصية. فإذا كان هذا الرأي ينطبق على عموم أدب الرواية والقصة فإنه يبدو أكثر انطباقاً فيما يخص سرديات الخيال العلمي.
ومن أجل المزيد من تلمس التعرف على مفهوم هذا الجنس الكتابي، فإن استعادتنا لاستعراض لمحة عن تاريخه ومن ثم التعرف على بعض خصائصه وإشكالياته، سوف يساعدنا أكثر في بلورة تصورنا وربما حتى تعريفنا ومفهومنا الخاص له.
نبذة تاريخية:
لقد كانت بداية انطلاقة وانتشار تعبير أو مصطلح (الخيال العلمي) سنة 1926 من قبل هوجو جيرنسباك Hugo Gernsback الذي وضعه على غلاف إحدى أهم المجلات الشهيرة آنذاك بقصص الخيال والتنظير في العشرينات في الولايات المتحدة الأمريكية وهي مجلة ( Amazing). هذا على الرغم من أن الاستخدام المبكر لهذا المصطلح (الخيال العلمي) قد ظهر سنة 1851 من قبل ويليم ويلسون William Wilson إلا أنه قد كان استخداماً معزولاً ولم يصبح عاماً وشائعاً ومستخدماً كما هو عليه اليوم إلى أن أستخدمه جيرنسباك بشكل متواصل وإعلاني (على الرغم من أنه قد حاول في بداية الأمر ولمدة قصيرة استخدام الاشتقاق scientifiction إلا أنه لم يوفق في ذلك) فيما انتشر مصطلح الخيال العلمي.
وهكذا فحتى عام 1926 لم يكن لمصطلح أو تصنيف (الخيال العلمي Science Fiction) من وجود كما هو متعارف عليه الآن. وحتى هذا التاريخ فإن الكتابات التي نسميها الآن بأنها خيال علمي كان يطلق عليها عدة أسماء أو تصنيفات مثل: رحلات فنطازية، قصص العوالم الضائعة، يوتوبيات، روايات علمية وما إلى ذلك.
الكندي جون كلوت John Clute يسمي تلك المرحلة السابقة على شيوع الاصطلاح التجنيسي بكونها بدائيات الخيال العلمي وهي تسمية معقولة وخاصة لأولئك الذين يتذكرون بدايات تجاربه.
بالنسبة للكثير من الدارسين فإن أول عمل خيال علمي بمحتوى وعناصر تتوافق والاصطلاح الذي تم اتخاذه لاحقاً لهذا الجنس، يعود إلى سنة 1818 وهو العام الذي نشرت فيه الكاتبة الإنكليزية ماري شيلي Mary Shelley روايتها فرانكنشتين Frankenstein. فيما يرى البعض الآخر عناصر هذا الجنس وبعض خصائصه متوفرة في الحكايات والأساطير القديمة ومنها الإغريقية كما في أسطورة والد إيكارو الذي أنشأ متاهة مينوس، وصنع تماثيلاً من خشب قادرة على تحريك نفسها ذاتياً فاعتبرت البداية الأولى لعوالم الروبوت، كذلك أحلام السفر إلى القمر في أعمال كالتي كتبها كيرانو دي بيرخيراك Cyrano de Bergerac في القرن السابع عشر والبارون دي ميونتشاوسين Baron de Munchausen في القرن الثامن عشر. حيث تتوفر بعضها على مقاربات علمية منطقية. بينما يرى عدنان المبارك(6) بأن هذا الأدب "يملك تقاليد بالغة القدم تعود إلى أولى تصورات الإنسان عن الواقع وإمكانياته ككائن بشري يكتشف، باستمرار، الطبيعة والعالم. وكما معلوم فأولى المعطيات عن الرحلات، وبينها إلى الكواكب، نلقاها في آدابنا السومرية (ملحمة جلجامش مثلاً) والآشورية والمصرية وغيرها. وفي نص مصري من قبل أربعة آلاف سنة نقرأ عن رحلات خيالية إلى كواكب أخرى، وفي الـ(ماهابهارتا) الهندية القديمة خلق الشعراء في الفترة ما بين القرن الرابع قبل الميلاد والرابع بعده، صوراً فنتازية في تفاصيلها لرحلة إلى القمر وعلى متن سفن شبيهة بسفن اليوم الفضائية. وقد تبدو هذه كلها تصورات بعيدة عن مخيلة تلك الأزمنة التي لم تعرف إلا تحليق الطير، وإلا فمن أين أتى الكلام عن المكائن التي تقذف النار؟ وهذه التصورات القديمة تدعم الفرضية القائلة بأن الفنتازيا الأكثر بعداً عن الواقع لابد أن يكون فيها عدد من عناصره، وهذا موضوع قد يكون، في أضعف الأحوال، مادة صنف معين من الخيال العلمي يتناول عدداً من ألغاز واحتمالات وجود حضارات متطورة على الأرض سبقت حضارتنا. وهناك من يعتبر رواداً لأدب الخيال العلمي مؤلفين يونانيين أمثال ديوجين من القرن الأول قبل الميلاد والذي وصف رحلة إلى القمر، ولوكيان من القرن الثاني قبل الميلاد حين كتب عن بحارة وصلوا إلى القمر أثناء عاصفة شديدة..". وبالطبع تتكرر الإشارات أيضاً إلى ما في (ألف ليلة وليلة) من حصان طائر، بساط سحري، بلورة رؤيا ومصباح علاء الدين.. وغيرها. كذلك يشار إلى (رسالة الغفران) للمعري، وبشكل أكبر إلى عمل ابن طفيل في القرن 12م (حي بن يقظان) والذي يعرف غربياً بالفيلسوف الذي علم نفسه بنفسه، وكان نقطة انطلاق للكثير من الأعمال التي حذت حذوه.
وفي كل الأحوال فإنه لمن المتعذر وضع حدود ثابتة لتاريخية هذا الجنس، إلا أن كلوت Cluteفي موسوعته المتميزة(7)، يضع موضع الشك وجود هذا الجنس وفق مفهومه الحالي في مراحل بالغة التبكير ويرى بأن أولى النماذج قد كانت في نهايات القرن السابع عشر، إلا أن النموذج الأبرز هو رواية (يوتوبيا) لتوماس مور Tomas Moro سنة 1516 وهي أول قصة تتضمن وصفاً لمجتمع متخيل بكامله وبملامح ومعطيات تقترب من سلسلة التجارب العلمية الأولى. إلا أن معظم المختصين يتفقون على أن رواية شيلي هي نقطة التحول والانطلاقة الحقيقية لأدب الخيال العلمي والتي قسمت تاريخ هذا الجنس إلى ما قبلها وما بعدها، على الرغم من أن الأعوام الأولى التي تلت صدورها لم تحفل بنماذج أخرى مهمة إلا أننا يمكن أن نضيف روايتها الأخرى (الإنسان الأخير).
وفي عقد سنوات 1850 ظهرت أسماء علماء وأعمال كبار رواد هذا الجنس أمثال الفرنسي جول فيرن Jules Verne الذي نشر سنة 1851 أول أعماله من الخيال العلمي (رحلة في منطاد) فتحول ظهور هذه الرواية إلى عمل يمثل علامة بارزة في هذا الجنس وتحولت النظرة إلى العلم بفضلها من نظرة ريب وشك تجاه ما هو مجهول إلى مصدر للمعرفة والمغامرات والاكتشاف. ومن ثم تبعتها روايات الإنكليزي هربرت جورج ويلز H.G. Wells (1866 ـ 1946) والذي يعده بعض النقاد بمثابة شكسبير الخيال العلمي عبر أعماله التي تتضمن نقداً اجتماعياً بمواصفات علمية. وقد راحت أعمال فيرن وويلز تنافر القصص والروايات القصيرة ذات المواضيع الفنطازية التي كانت منتشرة في صحف ومجلات أواخر القرن التاسع عشر، مما جعل البعض أن يتخذ أفكاراً علمية كحجة للانطلاق في عالم الخيال الفنطازي، وهكذا، مثلاً، وإن كان السير آرثور دويلي Sir Arthur Conan Doyle مشهوراً بأعمال أخرى إلا أنه قد كتب بعض أعمال الخيال العلمي، كذلك قد اقترب تشارلس ديكنز Charles Dikens من هذا الجنس وخاصة في روايته (البيت الأسود) سنة 1852 وراح يهتم بتقصي الحقائق العلمية في بقية رواياته خشية الوقوع في الخطأ العلمي وإثارة النقد ضده. والكاتب البريطاني الآخر الذي يعد من كبار كتاب الخيال العلمي هو جون ويندهام John Wyndham (1903 ـ 1969) والذي كان يفضل أن يصطلح لأدب الخيال العلمي تسمية (الفنطازيا المنطقية) وقد حاز شهرة كبيرة حتى بين غير المهتمين بأدب الخيال العلمي. ومن ثم كارل كيبك Karel Capek الذي أدخل في مسرحيته (آر. يو. آر.) تسمية الروبوت ومؤلف (حرب السمندر) سنة 1937 التي صارت من كلاسيكيات هذا الجنس.
اشتهرت أعمال فيرن وويلز وصار لهما قراءهما في مختلف أنحاء العالم، وكذلك مقلدين من الكتاب وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية مما ساعد على تفتح وازدهار ومن ثم ثورة أدب الخيال العلمي في أمريكا حيث برز اسم مارك توين Mark Twain وجاك لندن Jack London، وإدغار آلان بو Edgar Allan Poe في بعض قصصه، إلا أن الكاتب الذي استطاع أن يوسع من إشاعة أدب الخيال العلمي في أمريكا ويرمز لنهضته هو إدغار رايس بوروز Edgar Rice Burroughs والذي نشر قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى بقليل عمله (تحت أقمار المريخ) 1912 مسلسلاً في إحدى مجلات المغامرات الشهيرة، وهو صاحب الشخصية العالمية المعروفة (طرزان). وكما أشرنا سابقاً فإن هذا الانتشار الناجح لأدب الخيال العلمي في أمريكا هو الذي تمخض لاحقاً عن ولادة اصطلاح تسميته على يد هوغو جرنسباغ Hugo Gernsback مؤسس مجلة (Amazing).
يتم تصنيف المرحلة الواقعة بين الأعوام 1938 ـ 1950 باعتبارها فترة العصر الذهبي لأدب الخيال العلمي، حيث ظهور مجلة (Astounding Science Fiction) وأسماء كتاب كبار أمثال: إسحاق عظيموف Isaac Asimof، آرثر سي كلارك Arthur C. Clarke، وروبرت هينلين Robert A. Heilein وصار الخيال العلمي يكتسب مكانته باعتباره جنساً أدبياً مهماً راح يتطور وينضج من حيث خصائصه الفنية وتتضح ملامحه، كذلك كان لبعض الكتاب الآخرين فضلاً في ترسيخ واحترام هذا الجنس وإن كانوا ليسو من الكتاب المتخصصين به أمثال: كارل كيبيك Karel Capek، الدوس هكسلي Aldous Huxley وسي. أس. لويس C. S. Lewis. وكانت المجلات المتخصصة لافتة للنظر من حيث إخراجها وتصميمها حيث تظهر على أغلفتها صور ملونة لعيون ذبابة أو نساء شبه عاريات مما منحها صفحة جذابة وتشد انتباه جمهورها الذي كان من الفتية والمراهقين بشكل خاص.
وبعد الحرب العالمية الثانية حدث تحول في هذا الجنس حيث ازداد نتاج الروايات على حساب القصص القصيرة والمضامين، والتقنيات الروائية صارت أكثر نضجاً وتعقيداً، وتأسست مجلات جديدة مهمة وواسعة الانتشار.
فيما تم اعتبار الفترة بين الأعوام 1951 ـ 1965 عصراً فضياً حيث انتشرت أبرز الأعمال التي كتبت بعد الحرب العالمية الثانية، ومنها مثلاً ما كانت بقلم كاتب لا يعد ضمن الذين كرسوا حياتهم للخيال العلمي ألا وهو جورج أورويل في روايته (1984) فقد مثل هذا العمل قفزة كبيرة في تقريب هذا الجنس إلى الأدب المتعارف عليه وكسب المزيد من متابعيه. وبالطبع إضافة إلى بقية الأسماء الكبيرة التي سبق ذكرها وواصلت انتشارها حتى أوصلوا هذا الجنس الروائي إلى ذروته، وظهرت في تلك الفترة أبرز عناوين الأعمال التي سرعان ما صارت تعد من الكلاسيكيات الأساسية في الخيال العلمي مثل: (درجة 45 فهرنهايت) لبرادبوي، (أسواق الفضاء) لبول، (أكثر من بشري) لستيرجون، (نهاية الأبدية) لعظيموف و(اليانصيب الشمسي) لديك، ومنها تلك التي تم تحويلها إلى السينما والتلفزيون كـ (البرتقالة الميكانيكية) لأننتوني بورجيس على سبيل المثال. كما أن في هذه الفترة تمت انطلاقة جائزة هوغو لأدب الخيال العلمي التي أعلنت للمرة الأولى سنة 1953، وغيرها من الإنجازات الكبيرة التي حققها هذا الجنس في نموه، الأمر الذي دعى بعض النقاد لاعتبار هذه المرحلة الأخيرة امتداداً للمرحلة السابقة وعدها جزء من الفترة الذهبية للخيال العلمي أو امتداداً لها.
الخيال العلمي عربياً:
عدا ما تتم الإشارة إليه من جذور للخيال العلمي في أعمال مثل (ألف ليلة وليلة) و(حي بن يقظان) ومدينة الفارابي الفاضلة.. وغيرها، يشير نهاد شريف(8)، أحد الأسماء البارزة في أدب الخيال العلمي العربي المعاصر، إلى وجود ما يقرب 35 كاتباً عربياً وبأن البداية يمكن عدها منذ مطلع الخمسينات، ثم يعدد أبرز التجارب العربية في هذا المجال على النحو التالي: في القسم الأول الخاص بالكتاب المصريين تبدأ مسيرتهم من بداية الخمسينات، حيث يعكف توفيق الحكيم على تجربتين من أدب الخيال العلمي وسط أعماله الأخرى، هما قصته (في سنة مليون) 1953 ثم مسرحيته (رحلة إلى الغد) 1958، تلاه د. يوسف عزالدين عيسى بكتابة مجموعة تمثيليات إذاعية بدأ تقديمها منذ عام 1957. وفي أعوام الستينات: كتب د.مصطفى محمود روايته (العنكبوت) 1964 و(زجل تحت الصفر) 1967، كما كتب نهاد شريف روايته (قاهر الزمن) 1966 والتي تلتها 6 روايات أخرى و 8 مجاميع قصصية ومسرحيتان، إلى جانب عدد من الدراسات في أدب النوع. وفي أعوام السبعينات: كتب سعد مكاوي مجرباً مسرحيته (الميت الحي) 1973 وقصتين ضمن مجموعته (الفجر يزور الحديقة) 1975، كما كتب محمد الحديدي روايته (شخص آخر في المرآة) 1975، ثم جاءت كتابات رؤوف وصفي فبدأ بمجموعته القصصية (غزاة من الفضاء) 1979 وتلتها ثلاث مجاميع للكبار وواحدة أخرى للصغار. وفي أعوام الثمانينات والتسعينات: قدم المرحوم إبراهيم أسعد محمد مجموعته (قصص أخرى) من أدب الخيال العلمي سنة 1980، وحسين قدري روايته (هروب إلى الفضاء) 1981، وأحمد سويلم في ديوانيه (السفر والأوسمة) 1983 و(شظايا) 1994، كما كتب صبري موسى روايته (السيد من حقل السبانخ) 1986، ثم صلاح معاطي في مجموعته القصصية (انقذوا هذا الكوكب) 1986 فمجموعته الثانية (العمر خمس دقائق) 1992، وكتب عمر كامل روايته (ثقب في قاع النهر) 1987، ود.علي حسن روايته (السرطان وابتسامة سليمان) 1987، وإيهاب الأزهري روايته (الكوكب الملعون) 1987، وعادل غنيم روايته (نادي من عظام فتاة) 1989، ومهندس صلاح عبد الغني روايته (شجرة العائلة الأفقية) 1990، وأميمة خفاجي روايتها (جريمة عالم) 1992، والسيد القماحي قصته (الميكروصوت) 1993. يضاف إلى من سبق ذكرهم؛ نحو ثمانية من كتاب أدب الخيال العلمي للأطفال هم: فتحي أمين، عمر حلمي، صلاح طنطاوي، مجدي صابر، د.حسام العقاد، هشام الصياد واشرف شفيوي.
أما القسم الثاني الخاص ببقية الكتاب العرب فيضم: المغربي محمد عزيز الحبابي في روايته (إكسير الحياة) 1974، السوري د.طالب عمران الذي كتب رواية (العابرون خلف الشمس) 1987 وأتبعها بأربع روايات وأربع مجاميع قصصية وخمس مجاميع للأطفال، كما كتب المغربي عبدالسلام البقالي روايته (الطوفان الأزرق) في سنة 1979 ومجموعتين قصصيتين للأطفال، كذلك قدم بشير التركي دراسة في أدب الخيال العلمي سنة 1979، وكتب العراقي قاسم الخطاط روايته (البقعة الخضراء) 1984، والمغربي أحمد أفزارن مجموعته القصصية (غداً) 1986، والعراقي موفق ويس محمود مجموعة قصصه (إنها تنبض بالحياة) 1987، والعراقي علي كريم كاظم مجموعة قصص (الكوكب الأخضر) 1987، والكويتية طيبة أحمد الإبراهيم في رواياتها (الإنسان الباهت) 1986، (الإنسان المتعدد) 1990، (انقراض الرجل) 1990 وغيرها، والسوداني جمال عبد الملك الملقب بابن خلدون كتب مجموعته القصصية (الجواد الأسود) 1994. هذا ونضيف إلى الأسماء التي ذكرها نهاد شريف اسم الكاتب المصري د. أحمد خالد توفيق الذي له عشرات الأعمال، والعراقيين فؤاد التكرلي في قصته (م. أ. ر. ع. س.) 1984، وبهجت عباس في قصته (انتقام) 1997، وعدنان المبارك الذي له دراسات وترجمات متعلقة بالخيال العلمي والعديد من القصص القصيرة التي نذكر منها: (رحلة إلى القمر لم تحدث)، (السيد علوان والمخلوقات المنورة)، (زائر من هناك)، (السقوط من أسفل)، (لقاء في الحصورة)، (عماد والكرة الكونية) وغيرها.
خصائص:
نشير أولاً بأنه ليس أمامنا هنا إلا أن نتحدث عما هو عام وبشكل موجز لأن القيام بالحديث أو دراسة تفرعات وخصائص رواية الخيال العلمي يتطلب مجلدات بحجم الموسوعات كما يقول باتريك مور(9).
الزمان: إذا كانت الروايات الأدبية المتداولة تتميز بطبيعة تعاملها وتقنياتها في التناولات الفنية للزمن الروائي وكيفية بنائه، فإن روايات الخيال العلمي تتميز بطبيعة تعاملها مع الزمن المتعارف عليه كموضوعة رئيسية، فيتخذ بعضها ـ وهو الأقل ـ من الزمن الماضي ثيمة ومناخاً لمجمل العمل عبر افتراض عدم وقوع أحداث معينة غيرت مجرى التاريخ أو افتراض وقوع غيرها اعتماداً على معطيات علمية واكتشافات متعلقة بما هو سابق، أو الحاضر وما هو متوافر فيه من ثمار مؤثرات التقدم العلمي والتكنولوجي وأوجه احتمالاته على مختلف الأصعدة، أو المستقبل وهو الذي تتعامل معه أغلب روايات الخيال العلمي، فبعد تمكن الإنسان باقتدار من السفر والترحال عبر الأمكنة صار يفكر بالسفر عبر الأزمنة ويريد التنقل بين مناطقه الثلاث هذه، فمثلاً إذا كانت الأرض تدور حول نفسها مرة واحدة كل أربع وعشرين ساعة، ماذا لو سافرنا بسرعات مختلفة أخرى، تزيد أو تنقص عن سرعتها الثابتة هذه؟ ومن هنا انطلقت العديد من فرضيات أعمال هذا الخيال. ثم إذا كان الجسد الفيزيائي المادي يسافر، فهل بإمكان الذهن أن يسافر أيضاً بشكل مستقل؟. وكما يقول الإسباني ميغيل بارثيلو(10)؛ فإن رواية الخيال العلمي تهيئنا للعيش في عالم المستقبل. وإنها تتحدث عن شيء موجود ألا وهو المستقبل، وهو حتماً مختلف عن الماضي والحاضر، وما تفكر به هو مدى إمكانية الاستعداد له، بل وحتى السعي للتدخل في صياغته وفق إرادتنا ومصالحنا.
اللغة: غالباً ما تتعامل روايات الخيال العلمي مع اللغة على أنها مجرد أداة، لذا فهي تبسيطية ومباشرة ومقتصدة، وهذا أمر يعد من أهم نقاط الاختلاف والافتراق بينها وبين الأدب الخالص عموماً، وكثيراً ما يتم استبعاد نتاج الخيال العلمي عن حقل الأدب بسبب ذلك، وخاصة أن اللغة في الأدب تعتبر مادة رئيسية وميدان اشتغاله الجمالي الخصب. وليست اللغة هي الأداة التوضيحية الوحيدة لأدب الخيال العلمي فهو قد استخدم ووظف الرسوم والخرائط والصور والمعادلات الرياضية والتصميمات العلمية ومن ثم التقنيات الإلكترونية الحديثة وأدخلها ضمن متن نصوصه، بحيث أنه وفي بداياته كان يفرض حتى على مصممي أغلفة المجلات والكتب شروطاً من أهمها المعرفة العلمية إلى حد ما عموماً، ومعرفة بموضوع الرواية وفهماً لطبيعة طروحاتها وفروضها العلمية.
التقنية: لقد استفادت رواية الخيال العلمي من تقنيات الروايات الفنطازية التي سبقتها، لذا فهي لم تتردد بضمها لاحقاً تحت جناحها بعد إجراء بعض التغيرات عليها، إلا أن الاستفادة الأكبر والأوسع انتشاراً هي تلك التي تأثرت وجاءت مستمَدة من تقنيات الرواية البوليسية وحبكتها المحسوبة بعناية والهادفة إلى التشويق وشد المتلقي.
الموضوعة: أمام عموم تشابه مجمل العناصر الفنية لروايات الخيال العلمي قد تم اللجوء إلى القيام بإجراءات تصنيفها وفق المواضيع فهي أبرز ما يميزها وأكثر عناصرها خصوبة وتنوعاً وتجدداً وفيها يكمن جل اشتغالها وأهميتها وثقلها الحقيقي. وهنا يحرص المختصون بالخيال العلمي والمدافعون عنه إلى التمييز بين مجموعتين منه وعلى النحو التالي: تلك التي تفتقر إلى الدقة وغير سليمة علمياً. والثانية هي تلك التي تلتزم قدر الإمكان بالمعارف والمعطيات العلمية التي تمت برهنتها، وتنطلق منها(11). وفي ضوء هذه النقطة التصنيفية تحديداً يعزوا المختصون بالخيال العلمي بعض أسباب سوء الفهم والصدود عن نتاج الخيال العلمي، أي بسبب دخول ما يسمونهم بالطارئين والانتهازيين الذين يكتبون أعمالاً خرافية أو فنطازية جاهلة علمياً وينسبونها إلى جنس الخيال العلمي.
ومن أبرز المواضيع التي تتناولها روايات الخيال العلمي: المستقبل أو المراحل الزمنية القادمة، مُركزة رؤيتها عادة من خلال تصور التقدم العلمي والاجتماعي، اختراعات واكتشافات علمية وتكنولوجية ممكنة، تواصلات مع كائنات من كواكب أخرى سواء أكانت عاقلة أو لا.. ونتائج ذلك التواصل. فروقات الإنسان عبر القيام بمقارنته بالإنسان الآلي الروبوت وكائنات الكواكب الأخرى وغيرها من الكائنات سواء أكانت عاقلة أو لا. وبعضها يقوم بمزج أكثر من نوع، ففيها قصص رعب، كوارث، سياسة، مغامرات، رومانسية وحتى استعادات تاريخية.
وبشكل عام تكاد تصل تصنيفات أدب الخيال العلمي ورواياته وفق الموضوعة إلى ما يقارب الثلاثين صنفاً من أبرزها:
ارتياد الفضاء Space opera وهي تلك التي تصف المغامرات والرحلات إلى الفضاء وكواكبه، استكشافاً أو حروباً واحتلالاً أو الحياة فيه. ويعتبرها البعض تطوراً عن تلك الرحلات والمغامرات الفنطازية التي كانت سائدة في الآداب الرومانسية الكلاسيكية إلا أنها اتجهت إلى الفضاء والمستقبل انطلاقاً مما فتحه التطور العلمي والتكنولوجي المعاصر من آفاق وإمكانيات متحققة ومن فرضيات نظرية.
اليوتوبيا Utopia أو المدن الفاضلة المثالية والتجمعات والمدن المستقبلية. والحلم بمجتمعات نموذجية يتم توظيف العلمي فيها لكل ما هو إيجابي ولصالح خدمة الإنسان.
ديستوبيا Dystopia أو نقيض اليوتوبيا؛ الذي يتحدث عن مدن وتجمعات كابوسية تسودها الفوضى الأخلاقية والرعب.. تلك النماذج غير المرغوب بها من المجتمعات التي تصل الشؤون الاجتماعية فيها إلى مراحل فضيعة في شائكية العلاقات ومرارتها، مستخدمة ما هو علمي في خدمة الشر والقسوة، وهو بالطبع نوع من التحذير وعادة ما تتخذ هذه الأعمال مراحل زمنية مستقبلية وشيكة استناداً على بعض مظاهر المجتمعات الحالية.
الخيال العلمي الصارم Hard Science Fiction وهي أعمال شديدة الصرامة بالتزامها بالدقة العلمية المتطورة وبوصفها البالغ الدقة لكل ما هو علمي، حيث أنها تنطلق من ترجيح أهمية المحتوى على الشكل، وترجيح كفة العلمي على حساب الحكائي السردي، بحيث أن بعض المتشددين اعتبرها هي النموذج الذي يفترض أن يكون الأمثل لجنس الخيال العلمي، إلا أن هذا أدى إلى انقسام واختلاف بين أتباع وقراء هذا النوع لأنهم اعتبروا ذلك نوعاً من التقييد له وحصره على النخبة العلمية.
أوكرونياUchronia أو التاريخ البديل Allohistory؛ الذي يبنى على معلومات علمية تتعلق بالماضي وتم اكتشافها، فيقوم بتشييد تصوره ومناخاته على افتراضات تاريخية غير السائدة أو تلك التي حدثت، كافتراض تواصل وجود الديناصورات وكائنات أخرى وعدم انقراضها، أو ماذا لو لم يتم اكتشاف القارة الأمريكية؟ ماذا لو لم يوجد نابليون؟ أو لم يهاجم هتلر روسيا.. وما إلى ذلك.
السايبر بانك Cyber punk الذي ظهر في مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي إثر انطلاقة الشبكة الإلكترونية والثورة العلمية الرقمية الإنترنت، ويتناول فيها افتراضات وإمكانية استخدام هذه التكنولوجيا وتأثيرها على المجتمع، حيث أجيال وقدرات أجهزة الكمبيوتر وعالم المتسللين عبر أنظمتها Hackers، وغالبها يتسم بالرؤية التشاؤمية تجاه مستقبل ستتحكم فيه التكنولوجيا التي تهيمن عليها الرأسمالية المتوحشة وهي تستقطب محترفي (الإجرام) الرقمي. وتلا هذا النوع لاحقاً ما أطلق عليه بـ (ما بعد السايبر بانك).
غيـرها: ومنها، عالم الكائنات الآلية الذكية والروبوت والصحون الطائرة، الترحال في الزمن، الاستنساخ البشري والتحكم بالجينات، السوبرمانات، أعماق البحار، الاختفاء، الكوارث المستقبلية، المركبات التي تمثل عالماً قائماً بذاته وهي فكرة كان منطلقها في الأصل سفينة نوح. ومنها أيضاً تلك الأصناف التي يعددها الدكتور أحمد خالد توفيق في كتابه (أرشيف الغد)(12) مثل: غرباء بيننا: التي تتناول عالم الفضائيين الأوغاد الذين يأتون إلى الأرض، سواء أكانوا واضحين لنا أو مجهولين، وكقاعدة لهذه القصص.. دعوة لعدم الثقة بهذه الكائنات الفضائية. العوالم البديلة: تتحدث عن مجرات أخرى عليها أرض أخرى وعلى كل أرض مثيل لك. تحدي الجاذبية: والذي ينطلق أساساً من حلم الطيران عند الإنسان. الانتقال الجزئي: حيث يتم التحول فيه من شكل ومادة إلى غيرهما ويتم الانتقال إلى مكان آخر. مدن الغد: وهي التي يتم فيها تصور المدن التي يعيش فيها الفضائيون أو بشر الغد. الإدراك الفائق للحواس ESP: وفي هذه النوعية تتواجد أجواء الباراسايكولوجيا وشخصيات قارئي الأفكار والمحركين لغيرهم عن بعد والعرافين. البحث عن الخلود: كل ما يتعلق بهذا الحلم بما فيها الإحياء المؤقت والتجميد والاستنساخ. ما بعد الكارثة أو المحرقة: الأرض بعد حرب نووية أو وباء أو نفاد الطاقة حيث يعود الإنسان للحياة البدائية والكهوف.. ويصير أقرب إلى الوحوش ويعايشها. انفلات العلم: التي تتناول فرضيات أنواع من التجارب العلمية الخاطئة وما قد تؤدي إليه من إحداث مسوخ وطفرات وراثية. الأراضي المنسية التي لم يأهلها الإنسان، الخيال العلمي الإيروتيكي Space erotica. والنوع الذي يجمع مختلف الأنواع .. وغيرها.
إشكاليات وأسئلة:
مثل مختلف الأجناس الأدبية الأخرى، فلصنف الخيال العلمي إشكالياته العديدة وأسئلته المفتوحة وقضاياه التي يتعلق بعضها بطبيعة الاصطلاحات أو العناصر أو التلقي وما إلى ذلك. يتهمه البعض بكونه أدب يتهرب من مواجهة ما يخص واقع الإنسان وبأنه مبالغ في الخيال، ونستغرب توجيه تهمة كهذه فيما يتم تقبل شطحات الخيال من أجناس أدبية أخرى مهما تكن مبالغتها. لذا يمكن صياغة الأمر بشكل آخر، على هذا النحو: لماذا هذا التجوال الكثير في الفضاءات البعيدة ونسيان هذه الفضاءات الأرضية التي منها دواخل الإنسان وعلاقته بمحيطه الملموس وقرينه الإنسان الآخر؟. تجدر الإشارة هنا إلى إشكالية تعذر اصطلاح (الواقعية) الذي يجري تطبيقه بيسر على بقية أصناف وأساليب الروايات الأدبية الأخرى، والتي منها الواقعية الاشتراكية، الواقعية الواقعية، الواقعية السحرية.. وغيرها، أما هنا فلا يمكن وضع تسمية (الواقعية العلمية) كون ذلك سيعني العلم نفسه، مما سيعني دوام ارتباط هذا النوع بصفة (الخيال) حتى النهاية. يتم التساؤل أيضاً عما هو مصير تلك الأعمال الأولى التي تحققت فرضياتها العلمية أو تجاوزها العلم، وخاصة إذا ما عرفنا أن مكمن قوتها قد كان في متنها العلمي وليس في الأدبي الفني؟. ماذا عن مصير اللغة في هذا الجنس وهو في كل يوم يلجأ إلى توظيف أدوات بصرية وسمعية أخرى، في الوقت الذي يطالب فيه بالاعتراف به كأدب، فيما مادة الأدب الأساسية هي اللغة؟. إن إشكالية ضعف النوعية الأدبية الفنية التي تعاني منها رواية الخيال العلمي تجعل البعض يرى أن الاكتفاء بوصف المكتشفات والتنظيرات العلمية كافياً ولا ضرورة لهذه الثياب الأدبية المهلهلة أو لهذا الاستباق التخيلي الذي يحاول الإدهاش لأن العلم بحد ذاته يدهشنا كل يوم بجديده.
الخيال العلمي يعاني أيضاً من أزمة في النقد المواكب والجاد أو المتخصص، والنقد الأدبي العام يتجاهله أو مقصراً في تناوله، حيث يتم الاكتفاء بالعروض الخبرية الصحفية لما يصدر منه، وقلة نادرة من النقاد الكبار ممن يخصصون جهدهم لدراسات جادة عنه، كما أن كتاب الخيال العلمي أنفسهم يشككون بمدى إصابة النقد في تناوله لأعمالهم، بالقول مثلاً: "لا يُنتظر من ناقد عمره ستين سنة أن يصيب في حديثه عن رواية خيال علمي مكتوبة لفتى عمره ستة عشر سنة"(13). ويمكن رد التساؤل هنا بسؤال: وكيف لكاتب الخيال العلمي الذي عمره ستين سنة أن يكون واثقاً من أن الذي يكتبه؛ هو المناسب لفتى عمره ستة عشر سنة؟.. ثم إلى متى سيبقى كتاب الخيال العلمي يتعكزون على مقولة أن جمهورهم هم الصغار والشباب، ويفشلون في جذب جمهور الكبار والناضجين؟.
ربما أن من محاسن رواية الخيال العلمي أنها ليبرالية راديكالية في التغير وابنة اللحظة الآنية المعاصرة دائماً، لا تثقلها قيود تقاليد تحد من حرية حركتها وخيالها.. بل على العكس إن ارتباطها بالعلم الذي يفاجئنا كل يوم بطفراته المدهشة يجعل منها هي الأخرى قاطعة لمراحل في تغيرها، مما يوحي بأن كاتبها لا يحمل عقداً أدبية على الرغم من أن قيوده الأثقل تتمثل بالتقاليد الأدبية في كتابة الرواية من حيث العناصر والتقنيات وتوافر الشخصيات والحدث والشد والخيط السردي الحكائي، ومن ثم القيد الأثقل المتمثل باللغة. من جهة أخرى يرى البعض خلاف ذلك وبأنها، وعلى الرغم من تعدد صنوفها، لا تزال بحاجة إلى تنويعات جديدة لأنها سرعان ما تقع في تقليدية أنساقها التي تتراكم.
لقد كان للحروب دوراً في ازدهار العلم وبالتالي في ازدهار أدب الخيال العلمي أيضاً، كذلك قد ساهم وما يزال تطور وتقنيات الإنتاج التلفزيوني والسينمائي والألعاب الإلكترونية كثيراً في دعم الخيال العلمي وإنقاذه من الغرق والتهميش، وهو بدوره يجد نفسه فيها أكثر كل يوم، وهي بقدر ما خدمته، بقدر ما صارت تسحب البساط من تحته، حيث أن هذه التقنيات السمعبصرية العالية تجذب المتلقي تُقدم له دون أن تتطلب منه جهداً ما كجهد القراءة في الحالة الأدبية.. فهل سيستمر هذا الجنس بصفته الأدبية ومطالبة الإقرار بها، أم أنه سينتقل بثقله إلى هذه الميادين؟.
السؤال الآخر هو؛ ماذا عن هذا الضعف حد الغياب أحياناً لعلاقة الخيال العلمي بالجوانب النفسية للإنسان، وكذلك عن العلاقة مع القيم الأخلاقية والدينية والثقافية والمواقف المبدئية التي لا يمكن تجاهل تأثيرها على الذهنية الإنسانية بهذه السهولة؟. وبالطبع لا يتعلق الأمر هنا بمحاولة مقاضاة عمل أدبي وفق ما يحمله من إيديولوجية، ولكن كما يتساءل خوليان دييث(14): لماذا لا توجد أعمال خيال علمي مهمة حول مواضيع أخلاقية؟، وعادة ما تأتي الإجابة "لأنها لا تُباع"، فقارئ الخيال العلمي غير مستعد لتعقيد متعته باشتراطات القيم الأخلاقية، وهكذا فإن الخيال العلمي يجد نفسه يسير في درب حساس؛ فالذي سيحاول إنجاز عمل جاد من هذا النوع داخل جنس رواية الخيال العلمي سيواجه استبعاداً من الطرفين: قراء الأدب السائد والذين هم في الأصل قد أعرضوا تماماً عن الاهتمام بما يصدر عن الخيال العلمي، وقراء الخيال العلمي الذين اختاروا أن يملأوا ساعاتهم بقراءة موضات الخيال العلمي التشويقية والتي تتجنب الخوض في علوم الشؤون الاجتماعية.. "إنها مشكلة صعبة الحل" كما يصفها دييث، ويضيف: بأنها أحد أسباب ضعف الخيال العلمي حالياً والتي إن استمرت فسوف يدفع ثمنها مع مرور الوقت، فعلى الرغم من تواصل صدور أعمال جيدة، إلا أن الذي ينقص هو صدور أعمال مهمة، أعمال تعكس هموم وقلق الناس الحقيقي دون أن تفرض عليهم أنماط أخرى من الحياة.
أما فيما يتعلق بالخيال العلمي العربي، فإضافة إلى كل ما تم ذكره، فهو يواجه ضعف أو انعدام معرفة الناس به، والأسباب كثيرة منها: هشاشة التكوين والمعرفة العلمية التي يقدمها التعليم أو التكوين الثقافي، وندرة ترجمات روايات الخيال العلمي إلى العربية، وإعراض المثقفين عنها حيث أن غالبيتهم قد كان تكوينه الثقافي أدبياً شعرياً أكثر من كونه تكويناً علمياً. يقابل ذلك ضعف التوجه الإبداعي والأدبي عند أصحاب التخصصات العلمية، يضاف إليها عبء الضوابط الاجتماعية والدينية التي تحد من حريته. وضمن هذه الظروف العربية التي تمس الخيال العلمي، يمكن تقليب الأمر للنظر إليه من زاوية أخرى نصيغها عبر تساؤل: ترى لو اجتمعت خصوصية مؤهلات النموذج العربي، مثل شغفه باللغة وتكوينه واهتمامه وذائقته اللغوية الشعرية، مع ضوابطه الأخلاقية الاجتماعية والدينية والمبدئية، مع قدرته (الشرقية) العالية على التخيل وأرثه الخصب منه، مع قارئ حالم بالنهوض ومتعطش للمعرفة الواثقة وهو المحاط والمحبط من كثرة تعاقب الخادعين له.. ترى لو اجتمعت كل هذه العوامل مع دعم واهتمام ورعاية جادة بالخيال العلمي.. هل سينتج المبدع العربي أعمالاً ستشكل إضافة هائلة إلى هذا الجنس الثقافي؟.. أم ترى أن الذي نتحدث به هنا ما هو إلا تحت تأثير حديثنا عن الخيال العلمي، وما نقوله لا يتجاوز كونه ضرباً منه؟..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)ـ صحيفة (المنتدى الثقافي)، العدد الأول، أيلول 1996م، دمشق.
(2)ـ فالنتينا إيفاشيفا، الثورة التكنلوجية والأدب، ترجمة: عبدالحميد سليم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1985، ص 42.
(3)ـ Miguel Barcelo, Paradojas II, ciencia en la ciencia ficcion, Ed. Equipo Sirius, Madrid 2005, pag. 13.
(4)ـ رجب سعد السيد، الثقافة الغائبة، موقع (3w.arabworldbooks.com).
(5)ـ حوار مع د. طالب عمران أجرته صحيفة (الوطن) العُمانية في عددها الصادر بتاريخ 2/ 2/ 2003م.
(6)ـ عدنان المبارك، أدب الخيال العلمي تجسيد لأحلام الإنسان، موقع (القصة العراقية3w.iraqstory.com)، وله في الموقع ذاته مقالات أخرى بهذا الخصوص، مثل: المخلوقات الكونية في أساطير الهنود الحمر، كيف خلق السومريون ما يسمى اليوم بعلم التحليقات الكونية، السفن الفضائية في تراث الهند.
(7)ـ John Clute, Peter Nicholls, eds., The Encyclopedia of Science Fiction (St. Martin’s Press, 1995) ISBN 0-312-13486-X
(8)ـ حوار مع نهاد شريف أجراه شوقي بدر يوسف، موقع (إسلام أونلاين 3w.islamonline.net )
(9)ـ Patrik Moore, Ciencia y ficcion, Ed. Taurus, Madrid 1965, pag.11.
(10)ـ Miguel Barcelo، مصدر سابق.
(11)ـ Patrik Moore، مصدر سابق.
(12)ـ د.أحمد خالد توفيق، أرشيف الغد، من سلسلة (فنتازيا)، القاهرة 2003م.
(13)ـ Patrik Moore، مصدر سابق.
(14)ـ Julian Diez, La irresponsabilidad etica de la ciencia-ficcion, Artifex vol.18, abril 1998.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (شؤون ثقافية) الليبية، العدد 31 سنة 2010م.